المبحث الرابع
ســـــرية مؤتــــة (8هـ)
أولاً: أسبابها وتاريخها:
أشعل عرب الشام فتيل الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، فقد دأبت قبيلة كلب من قضاعة التي كانت تنزل على دومة الجندل على مضايقة المسلمين، وحاولت أن تفرض عليهم نوعًا من الحصار الاقتصادي عن طريق إيذائها للتجار الذين كانوا يحملون السلع الضرورية من الشام إلى المدينة، ولذلك غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة كلب بدومة الجندل سنة (5هـ) لكنه وجدهم قد تفرقوا, كما أن رجالا من جذام ولخم قطعوا الطريق على دحية بن خليفة الكلبي عند مروره بحسمى بعد إنجازه لمهمة أناطها به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستلبوا كل ما معه، فكانت سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في سنة 6هـ, ويضاف إلى ذلك أيضا ما قامت به قبيلتا مذحج وقضاعة من اعتداء على زيد بن حارثة وصحبه في العام المذكور (6هـ), وذلك عندما ذهبوا إلى وادي القرى في بعثة بغرض الدعوة إلى الله، وبعد صلح الحديبية أخذ هذا المسلك العدواني يأخذ منحنى أكثر خطورة( ), بعد مقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله إلى حاكم (بصرى) التابع لحاكم الروم، فقد قام شرحبيل بن عمرو الغساني بضرب عنق رسول رسول الله, ولم تجر العادة بقتل الرسل والسفراء، كما أن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق أساء استقبال مبعوث رسول الله وهدد بإعلان الحرب على المدينة، ثم حدث بعد ذلك بما يزيد قليلا عن العام أن بعث رسول الله سرية بقيادة عمرو بن كعب الغفاري ليدعو إلى الإسلام في مكان يقال له (ذات أطلاح) فلم يستجب أهل المنطقة إلى الإسلام وأحاطوا بالدعاة من كل مكان وقاتلوهم حتى قتلوهم جميعًا إلا أميرهم, كان جريحًا فتحامل على جرحه حتى وصل إلى المدينة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم( ), وقد قام نصارى الشام بزعامة الإمبراطورية الرومانية بالاعتداءات على من يعتنق الإسلام أو يفكر بذلك، فقد قتلوا والي مَعَانَ حين أسلم، وقتل والي الشام من أسلم من عرب الشام( ).
كانت هذه الأحداث المؤلمة وبخاصة مقتل سفير رسول الله الحارث بن عمير الأزدي، محركة لنفوس المسلمين، وباعثًا ليضعوا حدًّا لهذه التصرفات النصرانية العدوانية، ويثأروا لإخوانهم في العقيدة الذين سُفكت دماؤهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ونبينا محمد رسول الله( ). كما أن تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية والذين دأبوا على استفزاز المسلمين وتحديهم وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم أصبح هدفًا مهمًّا، لأن تحقيق هذا الهدف معناه فرض هيبة الدولة الإسلامية في تلك المناطق بحيث لا تتكرر مثل هذه الجرائم في المستقبل, وبحيث يأمن الدعاة المسلمون على أنفسهم ويأمن التجار المترددون بين الشام والمدينة من كل أذى يحول دون وصول السلع الضرورية إلى المدينة( ).
وفي سنة 8هـ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز للقتال، فاستجابوا للأمر النبوي وحشدوا حشودًا لم يحشدوها من قبل، إذ بلغ عدد المقاتلين في هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل، واختار النبي صلى الله عليه وسلم للقيادة ثلاثة أمراء على التوالي: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة( ), فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عبد الله ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة ( ).
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش الإسلامي أن يأتوا المكان الذي قتل فيه الحارث بن عمير الأزدي وأن يدعوا من كان هناك إلى الإسلام فإن أجابوا فبها ونعمت, وإن أبوا استعينوا بالله عليهم وقاتلوهم( ).
وقد زود الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش في هذه السرية وغيرها من السرايا بوصايا تتضمن آداب القتال في الإسلام( ), فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بقوله: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا، اغزوا باسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا، ولا امرأة ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقربوا نخلا، ولا تقطعوا شجرًا، ولا تهدموا بناء, وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث: فإما الإسلام، وإما الجزية، وإما الحرب...»( ).
ثانيًا: وداع الجيش الإسلامي:
لما تجهز الجيش الإسلامي وأتم استعداده، توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يودعون الجيش, ويرفعون أكف الضراعة لله عز وجل أن ينصر إخوانهم المجاهدين، لقد سلموا عليهم وودعوهم بهذا الدعاء: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين( ).
ولما ودع الناس عبد الله بن رواحة وسلموا عليه بكى وانهمرت الدموع من عينيه ساخنة غزيرة, فتعجب الناس من ذلك، وقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا وصبابة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار ( وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ) [مريم: 71], فلست أدري كيف بي بالصدر بعهد الورود، فقال لهم المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
وضربة ذات فراغ تقذف الزبدا
لكني أسأل الرحمن مغفرة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
أرشده الله من غاز وقد رشدا( )
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
وودع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة، فقال ابن رواحة يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تثبيت موسى ونصرًا كالذي نصروا
يثبت الله ما آتاك من حسن
فراسة خالفتهم في الذي نظروا
إني تفرست فيك الخير نافلة
والوجه منه فقد أزرى به القدر( )
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
ثالثًا: الجيش يصل إلى معان واستشهاد الأمراء الثلاثة:
لما وصل الجيش الإسلامي إلى معان من أرض الشام -وهي الآن محافظة من محافظات الأردن- بلغه أن النصارى الصليبيين من عرب وعجم قد حشدوا حشودًا ضخمة لقتالهم، إذ حشدت القبائل العربية مائة ألف صليبي من لخم وجذام وبهراء وبلى, وعينت لهم قائدًا هو مالك بن رافلة, وحشد هرقل مائة ألف نصراني صليبي من الروم فبلغ الجيش مائتي ألف مقاتل، مزودين بالسلاح الكافي يرفلون في الديباج لينبهر المسلمون بهم وبقوتهم( ), ولقد قام المسلمون في معان يومين يتشاورون في التصدي لهذا الحشد الضخم فقال بعضهم: نرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة نخبره بحشود العدو, فإن شاء أمدنا بالمدد، وإن شاء أمرنا بالقتال( ), وقال بعضهم لزيد بن حارثة قائد الجيش: وقد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء( )، ولكن عبد الله بن رواحة حسم الموقف بقوله: (يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون؛ الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، فألهبت كلماته مشاعر المجاهدين، واندفع زيد بن حارثة بالناس إلى منطقة مؤتة جنوب الكرك يسير حيث آثر الاصطدام بالروم هناك، فكانت ملحمة سجل فيها القادة الثلاثة بطولة عظيمة انتهت باستشهادهم( )، فقد استبسل زيد بن حارثة وتوغل في صفوف الأعداء وهو يحمل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم( ).
ثم أخذ الراية جعفر وانبرى يتصدى لجموع المشركين الصليبيين، فكثفوا حملاتهم عليه، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، فلم تلن له قناة، ولم تهن له عزيمة، بل استمر في القتال, وزيادة في الإقدام ونزل عن فرسه وعقرها، وأخذ ينشد:
طيبة وباردًا شرابها
يا حبذا الجنة واقترابها
كافرة بعيدة أنسابها
والروم روم قد دنا عذابها
عليَّ إذا لاقيتها ضرابها( )
لقد أخذ اللواء بيده اليمنى فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت, فاحتضنه بعضديه وانحنى عليه حتى استشهد وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولقد أُثخن بالجراح إذ بلغ عدد جراحه تسعين بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم, وليس من بينها جرح في ظهره بل كلها في صدره( ).
روى الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: كنت في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى, ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنة أو رمية( ).
ولقد عوض الله -تبارك وتعالى- جعفر بن أبي طالب وأكرمه على شجاعته وتضحيته بأن جعل له جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء، فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عامر قال: كان ابن عمر إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين( ).
وبعد استشهاد جعفر بن أبي طالب استلم الراية عبد الله بن رواحة الأنصاري وامتطى جواده، وهو يقول:
لتنزلن أو لتكرهنه
أقسمت يا نفس لتنزلنه
ما لي أراك تكرهين الجنة
إن أجلب( ) الناس وشدوا الرنة( )
هل أنت إلا نطفة في شنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة
هذا حمام الموت قد صليت
يا نفس إلا تقتلي تموتي
إن تفعلي فعلهما هُديت( )
وما تمنيت فقد أعطيت
ويذكر أن ابن عم لعبد الله بن رواحة قد قدم له قطعة من لحم وقال له: شد بهذا صلبك، فإنك لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذها من يده ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع جلبة وزخامًا في جبهة القتال، فقال يخاطب نفسه: وأنت في الدنيا؟ ثم ألقى قطعة اللحم من يده وتقدم يقاتل العدو حتى استُشهد , وكان ذلك في آخر النهار( ).
رابعًا: المسلمون يختارون خالد بن الوليد قائدًا:
ولما استشهد عبد الله بن رواحة ، وسقطت الراية من يده فالتقطها ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن عدي بن العجلان البلوي الأنصاري، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد( ). وجاء في إمتاع الأسماع أن ثابت بن أقرم نظر إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان، فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن، فقد شهدت بدرًا، فقال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ما أخذته إلا لك، فأخذه خالد بن الوليد ( ). وأصبحت الخطة الأساسية المنوطة بخالد في تلك الساعة العصيبة من القتال، أن ينقذ المسلمين من الهلاك الجماعي، فبعد أن قدر الموقف واحتمالاته المختلفة قدرًا دقيقًا، ودرس ظروف المعركة درسًا وافيًا وتوقع نتائجها، اقتنع بأن الانسحاب بأقل خسارة ممكنة هو الحل الأفضل، فقوة العدو تبلغ (66) ضعفًا لقوة المسلمين، فلم يبق أمام هؤلاء إلا الانسحاب المنظم وعلى هذا الأساس وضع خالد الخطة التالية:
أ- الحيلولة بين جيش الروم وجيش المسلمين، ليضمن لهذا الأخير سلامة الانسحاب.
ب- لبلوغ هذا الهدف، لا بد من تضليل العدو بإيهامه أن مددًا ورد إلى جيش المسلمين فيخفف من ضغطه وهجماته, ويتمكن المسلمون من الانسحاب، وصمد خالد حتى المساء عملا بهذه الخطة، وغير في ظلام الليل مراكز المقاتلين في جيشه، فاستبدل الميمنة بالميسرة، ومقدمة القلب بالمؤخرة، وفي أثناء عملية الاستبدال اصطنع ضجة صاخبة وجلبة قوية، ثم حمل على العدو، عند الفجر، بهجمات سريعة متتالية وقوية ليدخل في روعه إن إمدادات كثيرة وصلت إلى المسلمين( ).
ونجحت الخطة؛ إذ بدا للعدو صباحًا أن الوجوه والرايات التي تواجهه جديدة لم يرها من قبل، وأن المسلمين يقومون بهجمات عنيفة، فأيقن أنهم تلقوا إمدادات، وأن جيشًا جديدًا نزل إلى الميدان، وكان البلاء الحسن الذي أبلاه المسلمون قد فت في عضد الروم وحلفائهم، فأدركوا أن إحراز نصر حاسم ونهائي على المسلمين أمر مستحيل، فتخاذلوا وتقاعسوا عن متابعة الهجوم، وضعف نشاطهم واندفاعهم، فخف الضغط عن جيش المسلمين، وانتهز خالد الفرصة فباشر الانسحاب, وكانت عملية التراجع التي قام بها خالد في أثناء معركة (مؤتة) من أكثر العمليات في التاريخ العسكري مهارة ونجاحًا، بل إنها تتفق وتتلائم مع التكتيك الحديث للانسحاب, فقد عمد خالد إلى سحب الجناحين بحماية القلب، ولما أصبح الجناحان بمنأى عن العدو، وفي مأمن منه، عمد إلى سحب القلب بحماية الجناحين، إلى أن تمكن وضمن سلامة الانسحاب كليًّا( )، ويقول المؤرخون: إن خسارة المسلمين لم تتعد الاثني عشر قتيلا في هذه المعركة، وأن خالدًا قال: (لقد انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي إلا صفيحة يمانية)( ).
ويمكن القول إن خالدًا بخطته تلك، قد أنقذ الله المسلمين به من هزيمة ماحقة وقتل محقق, وأن انسحابه كان قمة النصر بالنسبة إلى ظروف المعركة، حيث يكون الانسحاب في ظروف مماثلة أصعب حركات القتال، بل أجداها وأنفعها( ).
خامسًا: معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وموقف أهل المدينة من الجيش:
ظهرت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم في أمر هذه السرية, فقد نعى المسلمين في المدينة زيدًا وجعفرًا وابن أبي رواحة قبل أن يصل إليه خبرهم، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع للسرية وذرفت عيناه الدموع، ثم أخبرهم بتسلم خالد الراية، وبشرهم بالفتح على يديه وأسماه سيف الله( ), وبعد ذلك قدم من أخبرهم بأخبار السرية، ولم يزد عما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم( ).
ولما دنا الجيش من حول المدينة، تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون, ولقيهم الصبيان ينشدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال: خذوا الصبيان واحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبد الله، فأخذه فحمله على يديه، وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار, أفررتم في سبيل الله، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى ( ).
وإن الإنسان ليعجب من هذه التربية النبوية التي صنعت من الأطفال الصغار، رجالاً وأبطالاً، يرون العودة من المعركة دون شهادة في سبيل الله، فرارًا من سبيل الله، لا يكافأون عليه إلا بحثو التراب في وجوههم، فأين شبابنا المتسكعون في الشوارع، من هذه النماذج الرفيعة من الرجولة الفذة المبكرة؟ ولن تستطيع الأمة أن ترتفع إلى هذه الأهداف النبيلة والقمم الشوامخ إلا بالتربية الإسلامية الجادة القائمة على المنهاج النبوي الكريم( ).
سادسًا: دروس وعبر وفوائد:
ففي هذه الغزوة دروس وعبر كثيرة منها:
1- أهمية هذه المعركة: تعتبر هذه المعركة من أهم المعارك التي وقعت بين المسلمين وبين النصارى الصليبيين من عرب وعجم؛ لأنها أول صدام مسلح ذي بال بين الفريقين، وأثرت تلك المعركة على مستقبل الدولة الرومانية، فقد كانت مقدمة لفتح بلاد الشام وتحريرها من الرومان. ونستطيع أن نقول إن تلك الغزوة هي خطوة عملية قام بها النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء على دولة الروم المتجبرة في بلاد الشام، فقد هز هيبتها من قلوب العرب، وأعطت فكرة عن الروح المعنوية العالية عند المسلمين، كما أظهرت ضعف الروح المعنوية في القتال عند الجندي الصليبي النصراني( ), وأعطت فرصة للمسلمين للتعرف على حقيقة قوات الروم، ومعرفة أساليبهم في القتال.
2- حب الشهادة باعث للتضحية: إن الصبر والثبات والتضحية التي تجلت في كل واحد من الأمراء الثلاثة وسائر الجند كان مبعثها الحرص على ثواب المجاهدين, والرغبة في نيل الشهادة لكي يكرمهم الله برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, ويدخلوا جنات الله الواسعة التي فيها ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
3- تميز هذه المعركة عن سائر المعارك: فهي الوحيدة التي جاء خبرها من السماء، إذ نعى النبي صلى الله عليه وسلم استشهاد الأبطال الثلاثة قبل أن يصل الخبر من أرض المعركة، بل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أحداثها، وتمتاز أيضا عن غيرها بأنها الوقعة الوحيدة التي اختار النبي صلى الله عليه وسلم لها ثلاثة أمراء على الترتيب: زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب، عبد الله بن رواحة( ).
4- إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لآل جعفر: لما أصيب جعفر دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسماء بنت عميس فقال: «ائتيني ببني جعفر» فأتت بهم فشمهم وقبلهم وذرفت عيناه، فقالت أسماء: أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: «نعم أصيبوا هذا اليوم»، فجعلت تصيح وتولول, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعامًا، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» ( ).
وتلحظ في هذا الخبر عدة أمور منها:
أ- جواز بكاء المرأة على زوجها المتوفى: أُخذ هذا من فعل أسماء بنت عميس رضي الله عنها حينما نعى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها ومن معه، فبكت وصاحت، فلم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهها عن ذلك، ولو كان ممنوعًا لنهاها عن ذلك، والبكاء الذي نهى عنه الإسلام هو ما كان سائدًا عند أهل الجاهلية من النواح واللطم وشق الجيوب، والتبرم بقضاء الله وقدره، وما إلى ذلك مما يكون سببًا في معصية الخالق سبحانه.
ب- استحباب صنع الطعام لأهل الميت: وقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يصنعوا طعامًا لآل جعفر، وهذا فيه مواساة لأهل المتوفى وتخفيف مصابهم، وفي الوقت نفسه تكافل بينهم وهذه السنة خالفتها بعض الشعوب الإسلامية، وأصبح أهل الميت يصنعون الطعام للقادمين، وهذا أمر قبيح ينبغي أن يبتعد عنه المسلمون( ).
هذا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البكاء بعد ثلاث, فقد دخل على أسماء وقال لها: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي» فجيء بهم كأنهم أفرخ، فدعا بالحلاق فحلق لهم رؤوسهم ثم قال: «أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي»، ثم أخذ بيمين عبد الله وقال: «اللهم اخلف جعفرًا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه» قالها ثلاثا( ). ولما ذكرت له أمهم يتمهم وضعفهم قال لها: «العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة»( ). وهذا منهج نبوي كريم خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاية وتكريم أبناء الشهداء لكي تسير الأمة على نهجه الميمون( ).
ج- زواج أبي بكر الصديق من أسماء بنت عميس: وبعد أن انقضت عدة أسماء بنت عميس خطبها أبو بكر الصديق فتزوجها، وولدت له محمد بن أبي بكر، وبعدما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب، وولدت له أولادًا وعنها وعنهم أجمعين( ). وقد ذكر ابن كثير أن أسماء بنت عميس رثت زوجها جعفر بن أبي طالب بقصيدة تقول فيها:
عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فآليت لا تنفك نفسي حزينة
أكر وأحمر في الهياج وأصبرا( )
فلله عينا من رأى مثله فتى
5- من فقه القيادة: إنه درس عظيم يقدمه لنا الصحابي الجليل ثابت بن أقرم العجلاني، عندما أخذ اللواء بعد استشهاد عبد الله بن رواحة آخر الأمراء، وذلك أداء منه للواجب؛ لأن وقوع الراية معناه هزيمة الجيش، ثم نادى المسلمين أن يختاروا لهم قائدًا، وفي زحمة الأحداث قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل.. فاصطلح الناس على خالد. وفي رواية أن ثابتًا مشى باللواء إلى خالد، فقال خالد: لا آخذه منك، أنت أحق به فقال: والله ما أخذته إلا لك.
إن مضمون كلتا الروايتين واحدٌ، أن ثابتًا جمع المسلمين أولاً وأعطى القوس باريها, فأعطى الراية أبا سليمان خالد بن الوليد( ), ولم يقبل قول المسلمين: أنت أميرنا، ذلك أنه يرى فيهم من هو أكفأ منه لهذا العمل، وحينما يتولى العمل من ليس له بأهل، فإن الفساد متوقع، والعمل حينما يكون لله تعالى، لا يكون فيه أثر لحب الشهرة، أو حظ النفس.
إن ثابتًا لم يكن عاجزًا عن قيادة المسلمين، وهو ممن حضر بدرًا، ولكنه رأى من الظلم أن يتولى عملاً وفي المسلمين من هو أجدر به منه، حتى ولو لم يمضِ على إسلامه أكثر من ثلاثة أشهر؛ لأن الغاية هي السعي لتنفيذ أوامر الله على الوجه الأحسن والطريقة الأمثل( ).
إن كثيرًا ممن يتزعمون قيادة الدعوة الإسلامية اليوم يضعون العراقيل أمام الطاقات الجديدة، والقدرات الفذة خوفًا على مكانتهم القيادية، وامتيازاتهم الشخصية، وأطماعهم الدنيوية، فعلى أولئك القادة أن يتعظوا من هذا الدرس البليغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
6- درس نبوي في احترام القيادة: قال عوف بن مالك الأشجعي : خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مدديّ من اليمن( )... ومضينا فلقينا جموع الروم، فيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وله سلاح مذهب، فجعل الرومي يضرب بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه بسيفه، وفر الرومي، فعلاه بسيفه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه بعض السلب, قال عوف: فأتيت خالدًا، وقلت له: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته قلت: لتردنها إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأبى أن يرد عليه. قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خالد ما حملك على ما صنعت؟» قال: استكثرته فقال: «رد عليه الذي أخذت منه». قال عوف: فقلت: دونكها يا خالد، ألم أوف لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذلك؟» فأخبرته قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره»( ).
هذا موقف عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم في حماية القادة والأمراء من أن يتعرضوا للإهانة بسبب الأخطاء التي قد تقع منهم، فهم بشر معرضون للخطأ، فينبغي السعي في إصلاح خطئهم من غير تنقص ولا إهانة، فخالد حين يمنع ذلك المجاهد سلبه لم يقصد الإساءة إليه، وإنما اجتهد فغلَّب جانب المصلحة العامة، حيث استكثر ذلك السلب على فرد واحد، ورأى أنه إذا دخل في الغنيمة العامة نفع عددًا أكبر من المجاهدين، وعوف بن مالك أدى مهمته في الإنكار على خالد، ثم رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما لم يقبل خالد قوله، وكان المفترض أن تكون مهمته قد انتهت بذلك؛ لأنه والحال هذه قد دخل في أمر من أوامر الإصلاح، وقد تم الإصلاح على يديه، ولكنه تجاوز هذه المهمة حيث حول القضية من قضية إصلاحية إلى قضية شخصية، فأظهر شيئًا من التشفي من خالد، ولم يقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل أنكر عليه إنكارًا شديدًا وبيَّن حق الولاة على جنودهم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر خالدًا بعدم رد السلب على صاحبه لا يعني أن حق ذلك المجاهد قد ضاع؛ لأنه لا يمكن أن يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانًا بجريرة غيره، فلا بد أن ذلك المجاهد قد حصل منه الرضا، إما بتعويض عن ذلك السلب أو بتنازل منه أو غير ذلك فيما لا يذكر تفصيله في الخبر( ).
إن الأمة التي لا تقدر رجالها ولا تحترمهم لا يمكن أن يقوم فيها نظام، إن التربية النبوية استطاعت بناء هذه الأمة بناء سليمًا، وما أحرى المسلمين اليوم أن يكون كل إنسان في مكانه، وأن يحترم ويقدر بمقدار ما يقدم لهذا الدين، ويبقى الجميع بعد ذلك في الإطار العام الذي وصف الله به المؤمنين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [المائدة: 54].
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «هل أنتم تاركون لي أمرائي» وسام آخر يضاف إلى خالد حيث عد من أمراء الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذا من المنهاج النبوي الكريم في تقدير الرجال( ).
7- مقاييس الإيمان وأثرها في المعارك:
توقف الجيش الإسلامي في معان يناقش كثرة جيش العدو، وكانت المقاييس المادية لا تشجعهم على خوض المعركة، ومع ذلك تابعوا طريقهم ودخلوا بمقاييس إيمانية، فهم خرجوا يطلبون الشهادة فلماذا إذن يفرون مما خرجوا لطلبه.
قال زيد بن أرقم: كنت يتيمًا لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته ينشد أبياتًا منها:
بأرض الشام مشتهى الثواء
وجاء المسلمون وغادروني
فلما سمعتها منه بكيت, قال: فخفقني بالدرة، وقال: وما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل( ).
إن التأمل بعمق في غزوة مؤتة يساعدنا في معالجة الهزيمة النفسية والروحية التي تمر بها الأمة, وإقامة الحجة على القائلين بأن سبب هزيمتنا التفوق التكنولوجي لدى الأعداء. لقد سجل ابن كثير رأيه في هذه المعركة وقال: (... هذا عظيم جدا أن يقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلا، وقد قتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: لقد اندقَّت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقى في يدي إلا صفيحة يمانية, فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟ دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان وفي كل أوان...)( ).
8- من شعر كعب بن مالك في بكاء قتلى مؤتة: حيث قال:
طورًا أحن( ) وتارة أتململ( )
في ليلة وردت عليَّ همومها
ببنات نعشٍ والسماك موكَّل( )
واعتادني حزن فبت كأنني
مما تأوبني شهاب مدخل( )
وكأنما بين الجوانح والحشى
يومًا بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
وجدا على النفر الذين تتابعوا
وسقى عظامهم الغمام المسبل( )
صلى الإله عليهم من فتية
حذر الردى ومخافة أن ينكلوا( )
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم
فُنُق( ) عليهن الحديد المرفل( )
فمضوا أمام المسلمين كأنهم
قدام أولهم فنعم الأول
إذ يهتدون بجعفر ولوائه
حيث التقى وعث الصفوف مجدل
حتى تفرجت الصفوف وجعفر
والشمس قد كسفت وكادت تأفل( )
فتغير القمر المنير لفقده
هذه بعض الأبيات التي بكى بها كعب بن مالك شهداء مؤتة, ولم يتغيب حسان بن ثابت عن نظم القصائد في بكاء قتلى مؤتة، وبكاء جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة, فقد كانت المؤسسة الإعلامية تقوم بدورها بتفوق وجدارة وتتعبد المولى عز وجل بما أخصها به من ملكات ومواهب شعرية فذة.
* * *