المبحث الرابع
بعض الدروس والعبر والفوائد
لقد وصف القرآن الكريم غزوة أحد وصفًا دقيقًا، وكان التصوير القرآني للغزوة أقوى حيوية ووضوحًا من الروايات التي جاءت في الغزوة، كما أن أسلوب الآيات المطمئنة المبشرة واللائمة، والمسكنة والواعظة كان رائعًا وقويًا، فبين القرآن الكريم نفوس جيش النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا تميز لحديث القرآن عن الغزوة، ينفرد به عما جاء في كتب السيرة, فسلط القرآن الكريم الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم، والناظر عموما في منهج القرآن في التعقيب على غزوة أحد، يجد الدقة والعمق والشمول.
يقول سيد قطب: الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة، والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة، والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث. كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء، بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجًا عميقًا عنيفًا، ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب فهو وصف حي، يستحضر المشاهد، كما لو كانت تتحرك، ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير( ).
إن حركة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة والتمكين لدين الله، تعتبر انعكاسًا في دنيا الحياة لمفاهيم القرآن الكريم التي سيطرت على مشاعره، وأفكاره وأحاسيسه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه لأثر الهزيمة في أحد تابع للمنهج القرآني الكريم، ونحاول تسليط الأضواء على بعض النقاط المهمة في هذا المنهج.
أولا: تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني:
قال تعالى: ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 137-139].
إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة بدر، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم( ).
قال القرطبي: هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين( ).
ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى، وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته, وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره. وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه، ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم( ).
وفي قوله تعالى: ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) دعاهم إلى ترك الضعف، ومحاربة الجبن، والتخلص من الوهن، وعدم الحزن؛ لأنهم هم الأعلون بسبب إيمانهم.
ثانيًا: تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد:
قال تعالى: ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) [آل عمران: 140-143].
بيَّن الله -سبحانه- لهم أن الجروح والقتلى يجب ألا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو؛ وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله من قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى( ).
وقال صاحب الكشاف: والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال, فأنتم أولى أن لا تضعفوا( ). فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين فجعل الدولة عليهم( ). وقد ذكر الله تعالى أربع حكم لما حدث للمؤمنين في غزوة أحد وهي: تحقق علم الله تعالى وإظهاره للمؤمنين، وإكرام بعضهم بالشهادة التي توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات, وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين، ومحق الكافرين واستئصالهم رويدًا رويدًا( ).
ثالثًا: كيفية معالجة الأخطاء:
ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في أحد على عكس ما نزل في بدر من آيات، فكان أسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر, فقال في غزوة بدر: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [الأنفال: 67، 68].
وقال في أحد: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152] وفي هذا حكمة عملية وتربية قرآنية يحسن أن يلتزمها أهل التربية والقائمون على التوجيه( ).
رابعًا: ضرب المثل بالمجاهدين السابقين:
قال تعالى: ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [آل عمران: 146-148].
قال ابن كثير: عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدًا قد قتل, فعذَلهم الله على فرارهم وتركهم القتال( ).
وضرب الله لهم مثلا بإخوانهم المجاهدين السابقين، وهم جماعة كثيرة، ساروا وراء أنبيائهم في درب الجهاد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا عن الجهاد بعد الذي أصابهم منه، وما استكانوا للعدو، بل ظلوا صابرين ثابتين في جهادهم، وفي هذا تعريض بالمسلمين الذين أصابهم الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، وضرب الله مثلا للمؤمنين لتثبيتهم بأولئك الربانيين وبما قالوه: ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [آل عمران: 147] وهذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى نفوسهم -مع كونهم ربانيين- هضم لها واعتراف منهم بالتقصير ودعاؤهم بالاستغفار من ذنوبهم مقدم على طلبهم تثبيت أقدامهم أمام العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم النصر عن زكاة وطهارة وخضوع، وفي هذا تعليم للمسلمين إلى أهمية التضرع، والاستغفار وتحقيق التوبة. وتظهر أهمية ذلك في إنزال النصر على الأعداء ( فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) أي وبذلك نالوا ثواب الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء والتوجه إلى الله, وإحسانهم في موقف الجهاد, وكانوا بذلك مثلا يضربه الله للمسلمين المجاهدين، وخص الله تعالى ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه على ثواب الدنيا وأنه هو المعتمد عنده( ).
خامسًا: مخالفة ولي الأمر تسبب الفشل لجنوده:
ويظهر ذلك في مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعهم في الخطأ الفظيع الذي قلب الموازين، وأدى إلى الخسائر الفادحة التي لحقت بالمسلمين. ولكي نعرف أهمية الطاعة لولي الأمر، نلحظ أن انخذال عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين لم يؤثر على المسلمين، بينما الخطأ الذي ارتكبه الرماة الذين أحسن الرسول صلى الله عليه وسلم تربيتهم، وأسند لكل واحد منهم عملا، ثم خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم كان ضرره على المسلمين عامة، حيث سلط الله عليهم عدوهم، وذلك بسبب عصيان الأوامر، ثم اختلطت أمورهم وتفرقت كلمتهم، وكاد يُقضى على الدعوة الإسلامية وهي في مهدها.
ونلحظ من خلال أحداث غزوة أحد: أن المسلمين انتصروا في أول الأمر حينما امتثلوا لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقادوا لتعليمات قائدهم وأميرهم عبد الله بن جبير , بينما انهزموا حينما خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم ونزل الرماة من الجبل لجمع الغنائم مع بقية الصحابة( ) رضي الله عنهم، قال تعالى: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [آل عمران: 153].
يقول الشيخ محمد بن عثيمين: (ومن آثار عدم الطاعة ما حصل من معصية بعض الصحابة رضي الله عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وهم يجاهدون في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، والذي حصل أنه لما كانت الغلبة للمؤمنين، ورأى بعض الرماة أن المشركين انهزموا تركوا الموضع الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوه، وذهبوا مع الناس، وبهذا كر العدو عليهم من الخلف، وحصل ما حصل من الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152] هذه المعصية التي فات بها نصر انعقدت أسبابه، وبدأت أوائله، هي معصية واحدة والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، فكيف بالمعاصي الكثيرة؟ ولهذا نقول: إن المعاصي من آثارها أن الله يسلط بعض الظالمين على بعض بما كانوا يكسبون، ويفوتهم من أسباب النصر والعزة بقدر ما ظلموا فيه أنفسهم( ).
سادسًا: خطورة إيثار الدنيا على الآخرة:
وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها, قال تعالى: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) [آل عمران: 14].
وقد حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة عامة وعلى من يحملون لواء الدعوة خاصة ومن ذلك:
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»( ) ويظهر للباحث أثر الحرص على الدنيا في غزوة أحد.
قال ابن عباس : لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: (أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم) وقال بعضهم: (لا نريم( ) حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم) ( ) فنزلت: ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ) [آل عمران: 152].
قال الطبري: قوله سبحانه: ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ) يعني الغنيمة, قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد( ) ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ).
إن الذي حدث في أحد عبرة عظيمة للدعاة وتعليمًا لهم بأن حب الدنيا قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشرع الصريحة كما عصى الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم الصريحة بتأويل ساقط، يرفعه هوى النفس وحب الدنيا، فيخالفون الشرع وينسون المحكم من أوامره، كل هذا يحدث ويقع من المؤمن وهو غافل عن دوافعه الخفية، وعلى رأسها حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة ومتطلبات الإيمان، وهذا يستدعي من الدعاة التفتيش الدائم الدقيق في خبايا نفوسهم واقتلاع حب الدنيا منها، حتى لا تحول بينهم وبين أوامر الشرع، ولا توقعهم في مخالفته بتأويلات ملفوفة بهوى النفس وتلفتها إلى الدنيا ومتاعها( ).
سابعًا: التعلق والارتباط بالدين:
قال ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان، ألا إن محمدًا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدًا، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام، فحصل ضعف ووهن وتأخر، عن القتال، ففي ذلك أنزل الله: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144] أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه( ).
وقد جاء في تفسير الآية السابقة، أن الرسل ليست باقية في أقوامها أبدًا, فكل نفس ذائقة الموت، ومهمة الرسول تبليغ ما أرسل به، وقد فعل، وليس من لوازم رسالته البقاء دائما مع قومه، فلا خلود لأحد في هذه الدنيا، ثم قال تعالى منكرًا على من حصل له ضعف لموت النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله، فقال تعالى: ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) أي رجعتم القهقرى، وقعدتم عن الجهاد، والانقلاب على الأعقاب يعني الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد ومتطلباته: ( وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) الذين لم ينقلبوا أو ظلوا ثابتين على دينهم متبعين رسوله حيًا أو ميتًا( ).
لقد كان من أسباب البلاء والمصائب التي حدثت للمسلمين يوم أحد أنهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الربط بين عقيدة الإيمان بالله ربًا معبودًا وحده وبين بقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا فيهم خالطه الحب المغلوب بالعاطفة، الربط بين الرسالة الخالدة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم البشر الذي يلحقه الموت كان من أسباب ما نال الصحابة -رضي الله عنهم- من الفوضى والدهشة والاستغراب، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أساس وجوب التأسي به في الصبر على المكاره، والعمل الدائب على نشر الرسالة، وتبليغ الدعوة ونصرة الحق، وهذا التأسي هو الجانب الأغرّ من جوانب
منهج رسالة الإسلام؛ لأنه الدعامة الأولى في بناء مسيرة الدعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض، وعدم ربط بقاء الدين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا ( ).
قال ابن القيم: إن غزوة أحد كانت مقدمة وإرهاصًا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يُقتلوا, فإنهم إنما يعبدون رب محمد، وهو لا يموت فلو مات محمد أو قتل، لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينهم، وما جاء به فكل نفس ذائقة الموت، وما نُعت محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد, لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان، إن محمدًا قد قتل فقال: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144], والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه, وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله، وأعزهم وظفرهم وجعل العاقبة لهم)( ).
قال القرطبي: (فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء)( ). وكلامه -رحمه الله- نفيس جدًا، فالذين ظنوا من قبل أن الإسلام قد انتهى بموت النبي صلى الله عليه وسلم، والذين يظنون أن ظهور الإسلام ودعوته متوقف على شخص بعينه، فهؤلاء وأولئك قد أخطأوا ولم يقدروا هذا الدين قدره، ولم يوفوه حقه؛ لأن ظهور هذا الدين وهيمنته على كل الأديان هو قدر الله عز وجل وسنته، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) [التوبة: 33].
فسبب ظهور هذا الدين أنه حق وأنه هدى( ).
في غزوة أحد نزل التشريع الإلهي بالعتاب على ما حدث منهم أثناء أحداث غزوة أحد, وعند موت الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التطبيق حيث (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل أبو بكر الصديق على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم( ) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حبرة( ), فكشف عن وجهه صلى الله عليه وسلم ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها)( ).
وعن ابن عباس قال: إن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر : أما بعد من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, قال الله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144] وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعَقِرْت( ) حتى ما تقلُّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها, علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات( ).
ثامنًا: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للرماة الذين أخطأوا والمنافقين الذين انخذلوا:
أ- الرماة:
إن الرماة الذين أخطأوا الاجتهاد في غزوة أحد لم يخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم خارج الصف، ولم يقل لهم إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر بعدما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف، بل قبل ضعفهم هذا في رحمة وعفو وفي سماحة، ثم شمل سبحانه وتعالى برعايته وعفوه جميع الذين اشتركوا في هذه الغزوة، رغم ما وقع من بعضهم من أخطاء جسيمة وما ترتب عليه من خسائر فادحة، فعفا سبحانه وتعالى عفوًا غسل به خطاياهم ومحا به آثار تلك الخطايا, قال تعالى: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152], وهناك أمر مهم يتصل بهذا العفو قد يترك أثرًا في نفوسهم يعوقها بعض الشيء, ذلك هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حدث منهم، إنهم يشعرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي تحمل نتيجة تلك الأخطاء فلا بد أن ينالوا منه عفوًا تطيب به نفوسهم، وتتم به نعمة الله عليهم، لهذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم وحثه على الاستغفار لهم، كما أمره أن يأخذ رأيهم والاستماع إلى مشورتهم، ولا يجعل ما حدث صارفًا له عن الاستفادة من خبراتهم ومشورتهم( ), قال تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [آل عمران: 159].
ب- انخذال ابن سلول المنافق:
كان هدف عبد الله ابن سلول بانسحابه بثلاثمائة من المنافقين، كان يريد أن يحدث بلبلة واضطرابًا في الجيش الإسلامي، لتنهار معنوياته ويتشجع العدو، وتعلو همته. وعمله هذا ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام، وغدر به في أحلك الظروف، وقد حاول عبد الله بن حرام أن يمنعهم من ذلك الانخذال إلا أنهم رفضوا دعوته( ), وفيهم نزل قول الله تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) [آل عمران: 166-167].
فالبرغم من خطورة الموقف وحاجة المسلمين لهذا العدد, لقلة جيش المسلمين وكثرة جيش قريش إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك هؤلاء المنافقين وشأنهم، ولم يعرهم أي اهتمام، واكتفى بفضح أمرهم أمام الناس( ). وكان لهذا الأسلوب أثره في توبيخ وإهانة ابن سلول، فعندما رجع رسول الله من غزوته من حمراء الأسد، أراد ابن سلول أن يقوم كعادته لحث الناس على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال الإمام الزهري: كان عبد الله بن أبي له مقام يقومه كل جمعة لا ينكسر له شرفًا في نفسه وفي قومه, وكان فيهم شريفًا, إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به, فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس, قام يفعل ذلك كما كان يفعله, فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بُجرًا( ), إن قمت أشدد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك ما لك؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب إلي رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني لكأنما قلت بجرًا أن قمت أشدد أمره, قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله، قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي( ).
تاسعًا: «أحد جبل يحبنا ونحبه»:
عن أنس بن مالك قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم طَلَع له أحدٌ فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه»( ).
وهذا يدل على دقة شعور النبي صلى الله عليه وسلم حيث قارن بين ما كسبه المسلمون من منعة التحصن والاحتماء بذلك الجبل، وما أودعه الله تعالى فيه من قابلية لذلك، فعبر عن ذلك بأرقى وشائج الصلة وهي المحبة، أفلا يعتبر هذا الوجدان الحي والإحساس المرهف مثلا أعلى على التخلق بخلق الوفاء؟. ألا إن الذي يعترف بفضل الحجارة الصماء، ويفضي عليها من الأخلاق السامية ما لا يتصف به إلا أفاضل العقلاء لجدير به أن يعترف بأدنى فضل يكون من بني الإنسان، وإن كان وفاؤه صلى الله عليه وسلم للجماد قد سما حتى حاز أرقى العبارات وأرقها, فأخلق ببني الإنسان الأوفياء أن ينالوا منه أعظم من ذلك، فضلا عمن تجمعه بهم الأخوة في الله تعالى( ).
والحديث النبوي الشريف فيه كثير من المعاني منها ما ذكره الحميدي، ومنها ما قاله الأستاذ صالح الشامي حيث قال: والإنسان كثيرًا ما يربط بين المصيبة وبين مكانها أو زمانها.. وحتى لا تنسحب هذه العادة وتستمر بعد أن جاء الإسلام كان هذا القول الكريم بيانًا للحق، وابتعادًا عن الطيرة والتشاؤم، وذلك المعنى الذي يبقي الآثار السيئة في نفس الإنسان, ولا شك أن المسلمين سيقفون على أحد يتذكرون تلك المعركة فحتى لا يرتبط بفكرهم ذلك المعنى السيئ بين لهم أن المكان والزمان مخلوقات لله لا علاقة لهما ولا أثر بما يحدث فيهما، وإنما الأمر بيد الله تعالى، والاستشهاد في سبيل الله كرامة لصاحبه لا مصيبة، وهكذا تتسق المفاهيم في إطارها الإيماني, إذًا (أحد) يكرم ويحب انطلاقًا من هذا القول الكريم، وكيف لا يكرم وقد اختاره الله ليثوي فيه حمزة وأصحابه ممن اختارهم الله في ذلك اليوم فجادوا بأنفسهم ابتغاء مرضاته( ).
عاشرًا: الملائكة في أحــــــــد:
قال سعد بن أبي وقاص : رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد، رجلين عليهما ثياب يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد, يعني جبريل وميكائيل، عليهما السلام( ). وهذا خاص بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تكفل بعصمته من الناس، ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال، ذلك لأن الله تعالى وعدهم أن يمدهم؛ وجعل وعده معلقًا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد( ), قال تعالى: ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) [آل عمران: 124، 125].
حادي عشر: قوانين النصر والهزيمة من سورة الأنفال، وآل عمران:
تحدثت سورة الأنفال عن غزوة بدر بشيء من التفصيل، وتحدثت سورة آل عمران عن غزوة أحد لكي تتعلم الأمة كثيرًا من المفاهيم، تتعلق بمفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الحياة والموت، ومفهوم النصر والهزيمة، ومفهوم الربح والخسارة، ومفهوم الإيمان والنفاق، ومفهوم المنحة والمحنة، ومن المفاهيم التي تعلمها الصحابة -رضي الله عنهم- من خلال أحداث بدر وأحد وسورتي الأنفال وآل عمران، قوانين النصر والهزيمة، وهذه القوانين قد بينتها الآيات الكريمة ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أ- النصر ابتداء وانتهاء، بيد الله عز وجل, وليس ملكًا لأحد من الخلق، يهبه الله لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء، مثله مثل الرزق، والأجل والعمل: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 10].
ب- وحين يقدر الله تعالى النصر، فلن تستطيع قوى الأرض كلها الحيلولة دونه،
وحين يقدر الهزيمة، فلن تستطيع قوى الأرض أن تحول بينه وبين الأمة, قال تعالى: ( إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [آل عمران: 160].
ج- ولكن هذا النصر له نواميس ثابتة عند الله عز وجل, نحن بحاجة إلى فقهها, فلا بد أن تكون الراية خالصة لله سبحانه عند الذين يمثلون جنده, قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [محمد: 7]. ونصر الله في الاستجابة له، والاستقامة على منهجه والجهاد في سبيله.
د- ووحدة الصف ووحدة الكلمة أساس في النصر، وتفريق الكلمة والاختلاف في الرأي دمار وهزيمة, قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [الأنفال: 46]..
هـ- وطاعة أمر الله تعالى ورسوله وعدم الخروج عليها أساس في النصر، أما المعصية فتقود إلى الهزيمة قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [الأنفال: 46].
و- وحب الدنيا والتهافت عليها يفقد الأمة عون الله ونصره, قال تعالى: ( حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ) [آل عمران: 152].
ز- ونقص العدد والعدة ليس هو سبب الهزيمة، قال تعالى: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [آل عمران: 123].
ح- ولكن لا بد من الإعداد المادي والمعنوي لمواجهة العدو( ), قال تعالى: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) [الأنفال: 60].
ط- والثبات عند المواجهة، والصبر عند اللقاء من العوامل الرئيسية في النصر, قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[الأنفال: 45]. وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ لأَدْبَارَ )[الأنفال:15].
ي- ولا شيء يعين على الثبات والصبر عند اللقاء مثل ذكر الله الكثير, باتجاه القلب إلى الله وحده منزل النصر، وطلب العون منه، والتوكل عليه، وعدم الاعتماد على العدد أو العدة أو الذات, والتبرؤ من الحول والقوة، هو عامل أساسي من عوامل النصر( ), قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[الأنفال: 45].
ثاني عشر: فضل الشهداء وما أعده الله لهم من نعيم مقيم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال عز وجل: أنا أبلغهم عنكم» فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات( ), قال تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 169-171].
وقد جاء في تفسير الآيات السابقة ما رواه الواحدي عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أصيب حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير يوم أحد، ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة, فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ) إلى قوله: ( وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )( ). وروى مسلم بسنده عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ). قال: أما إنا سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة، حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل, فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟! ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا, ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى, فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا»( ).
ثالث عشر: الهجوم الإعلامي على المشركين:
كان الإعلام في العهد النبوي يقوم على الشعر، وكان شعراء المشركين في بدر في موقف الدفاع والرثاء, وفي أحد حاول شعراء قريش أن يضخموا هذا النصر، فجعلوا من الحبة قبة، وأمام هذه الكبرياء المزيفة، انبرى حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة للرد على حملات المشركين الإعلامية التي قادها شعراؤهم كهبيرة بن أبي وهب، وعبد الله الزَّبَعْرَى وضرار بن الخطاب وعمرو بن العاص( ).
وكانت قصائد حسان كالقنابل على المشركين، وقد أشاد بشجاعة المسلمين، حيث استطاعوا أن يقتلوا حملة المشركين، ويوبخ المشركين ويصفهم بالجبن حينما لم يستطيعوا حماية لوائهم حتى كان في النهاية بيد امرأة منهم، وولى أشرافهم وتركوه، وفي هذا الهجاء تذكير للمشركين بمواقف الذل والجبن التي تعرضوا لها في بداية المعركة، حتى لا يغتروا بما حصل في نهايتها من إصابة المسلمين.
ولقد أصاب حسان من المشركين مقتلاً حينما عيرهم بالتخلي عن اللواء وإقدام امرأة منهم على حمله، وهذا يتضمن وصفهم بالجبن الشديد حيث أقدمت امرأة على
ما نكلوا عنه( ). ومما قاله في شأن عمرة بنت علقمة الحارثية ورفعها اللواء:
جداية شركٍ معلمات الحواجب( )
إذا عَضَلٌ سيقت إلينا كأنها
وحُزناهم بالضرب من كل جانب( )
أقمنا لهم طعنًا مبيرًا منكلاً
يباعون في الأسواق بيع الجلائب( )
فلولا لواء الحارثية أصبحوا
وعندما أخذ اللواء من الحارثية غلام حبشي لبني طلحة، كان لواء المشركين قد أخذه صؤاب من الحارثية وقاتل به قتالاً عنيفًا قتل على أثره فرمى حسان بن ثابت أبياته في هذا الموضوع فقال:
لواء حين رد إلى صؤاب
فخرتم باللواء وشر فخر
وألأم من يطا عفر التراب
جعلتم فخركم فيه بعبد
وما إن ذاك من أمر الصواب( )
ظننتم، والسفيه له ظنون
ومن أعجب ما قرأت في المعركة الإعلامية بين المسلمين والمشركين محاولة ضرار بن الخطاب قبل إسلامه أن يفتخر ببدر على اعتبار النصر كان لرسول الله والمهاجرين وفي ذلك قوله:
بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر
فإن تظفروا في يوم بدر فإنما
يحامون في اللأواء والموت حاضر
وبالنفر الأخيار هم أولياؤه
وبُدْ عن علي وسط من أنت ذاكر
يعد أبو بكر وحمزة فيهم
وسعد إذا ما كان في الحرب حاضر
ويدعى أبو حفص وعثمان منهم
بنو الأوس والنجار حين تفاخر( )
أولئك لا من نتجت من ديارها
وهكذا حولها إلى لغة قبلية تقوم على مفاهيم جاهلية ولقد أجابه كعب :
له معقل منهم عزيز وناصر
وفينا رسول الله والأوس حوله
يمسون في المأذى والنقع ثائر
وجمع بني النجار تحت لوائه
إلى أن قال:
فولوا وقالوا: إنما أنت ساحر
وكان رسول الله قد قال أقبلوا
وليس لأمر حمه النار زاجر
لأمر أراد الله أن يهلكوا به
كما أجابه بقوله:
جبريل تحت لوائنا ومحمد
وبيوم بدر إذ نرد وجوههم
وهو أفخر بيت قالته العرب كما قال صاحب العقد الفريد( ).
* * *