أ- أخبر الله تبارك وتعالى بما سيقوله اليهود عند تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من إثارة الشكوك والتساؤلات قبل وقوع الأمر، ولهذا دلالته فهو يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو أمر غيبي، فأخبر عنه قبل وقوعه ثم وقع، فدل ذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول ونبي يخبره الوحي بما سيقع، إذ من الأدلة على صدق رسالة الرسول أن يخبر بأمور غيبية ثم تقع بعد ذلك.
وهو يدل أيضاً على علاج للمشاكل قبل حدوثها حتى يستعد المسلمون ويهيئوا أنفسهم لهذه المشاكل للتغلب عليها، والرد عليها ودفعها؛ لأن الامر حين يكون مفاجئا لهم يكون وقعه على النفس أشد، ويربك المفاجأ به، أما حين يحدثون عنه قبل وقوعه، فالحديث يطمئنهم ويوطن نفوسهم ويعدها لمواجهة الشدائد( ) قال أبو السعود في تفسيره: «وأخبر بالأمر قبل وقوعه لتوطين النفوس وإعدادها لما يبكتهم، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أرد» ( ) وقد وصف الله تعالى اليهود بالسفه لاعتراضهم على تحويل القبلة وللكيد ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو السعود: «والسفهاء الذين خفت أحلامهم، واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر وقولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسيج، وقيل: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم، وقيل: الظلوم الجهول، والسفهاء هم اليهود»( ).
ب- ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة: 143].
فالآية تذكر أن الصلاة نحو بيت المقدس كانت فتنة، أي اختبار، والتحول من بيت المقدس إلى الكعبة كان أيضاً اختباراً وامتحاناً قال البيضاوي في تفسيره: «وما جعلنا قبلتك بيت المقدس إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا لنمتحن به الناس، ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها، ممن يرتد عن دينك إلفاً لقبلة آبائه، أو لنعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، وما كان لعارض، يزول بزواله، وعلى الأول معناه: ما رددناك إلى التي كانت عليها إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلة وضعف إيمانه»( ).
فالصلاة إلى الكعبة في بداية الأمر، ثم الصلاة إلى بيت المقدس، ثم العودة إلى الكعبة واستمرار ذلك لا شيء فيه، ما دام الباري سبحانه أمر بذلك، ومن ثم فالتوجه في كل حالة هو عبادة، وما على الناس إلا أن ينقادوا لأمر الله تبارك وتعالى، ويلتزموا بأمره، فالذي يتبع الرسول وينقاد لأوامره في القبلة يعد فائزاً في الاختبار والامتحان، والذي يجد في نفسه على حكم من الأحكام الشرعية كان ساقطاً وهالكا، والإيمان الحق هو الذي يلزم صاحبه بالاتباع ومخالفة الهوى( )، ولهذا ثبت الصحابة الكرام واستجابوا لأوامر الله تعالى، فعن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يسقتبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلي الشام فاستداروا إلى الكعبة( ).
جـ- ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة: 143].
وتبين الآية الكريمة كذلك حرص المؤمنين على إخوانهم وحب الخير لهم: حينما نزلت الآيات التي تأمر المؤمنين بتحويل القبلة إلى الكعبة تساءل المؤمنون مشفقين على مصير عبادة إخوانهم الذين ماتوا، وقد صلوا نحو بيت المقدس، فأخبر الله عز وجل أن صلاتهم مقبولة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما وُجَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس( )؟ فأنزل الله: ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة: 143]. وبين لهم أنه رءوف رحيم «وبها يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة، ويذهب عنها القلق ويفيض عليها الرضا والثقة واليقين»( ).
د- ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إذا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [البقرة: 144-148].
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يتوجه في صلاته إلى كعبة أبيه إبراهيم عليه السلام، فهو أولى الناس به؛ لأنه من ثمرة دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، وحامل لواء التوحيد بحق كما حملها إبراهيم عليه السلام، وهو صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يكون مستقبلا ومتميزا على أهل الديانات السابقة الذين حرفوا وبدلوا وغيروا كاليهود والنصارى؛ ولهذا كان ينهى عن تقليدهم والتشبه بهم، بل يأمر بمخالفتهم ويحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه من الزلل والخطل والانحراف، ومقتضى هذا الحرص أن يتوجه في صلاته بشكل دائم إلى قبلة أبي الأنبياء، وهو أول بيت وضع للناس( ).
إن لحادثة تحويل القبلة أبعاداً كثيرة: منها السياسي: ومنها العسكري، ومنها الديني البحت، ومنها التاريخي، فبُعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة وإنهاء الوضع الشاذ في المسجد الحرام، حيث أصبح مركز التوحيد مركزاً لعبادة الأصنام، وبعدها الديني أنها ربطت القلب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام عن العبادة في بقية الأديان( ).
هـ- ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ )
[البقرة: 149-152].
كأن الله تعالي يقول للمؤمنين: إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيتكم من نعائم الله عليكم، وقد سبقتها الآلاء من الله كثيرة عليكم ومنها:
* ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ ) فوجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المربين والدعاة، هو من خصيصة هذه النخبة القيادية، التي شرفها الله تعالى بأن يكون هو المسئول عن تربيتها، فقيه النفوس، وطبيب القلوب، ونور الأفئدة، فهو النور والبرهان والحجة.
* ( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ) فالمادة الأساسية للبناء والتربية كلام الله تعالى، وكان يرافقه شحنة عظيمة لنزوله أول الأمر غضًّا طريًّا، فكان جيلاً متميزاً في تاريخ الإنسانية.
* ( وَيُزَكِّيكُمْ ) فالمعلم المربي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المسؤول عن عملية التربية، وهو الذي بلغ من الخلق والتطبيق لأحكام القرآن الكريم، ما وصفه الله تعالى به من هذا الوصف الجامع المانع الذي تفرد به من دون البشرية كافة ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم: 4] وهو الذي وصفته عائشة رضي الله عنها بأعظم ما يملك بشر أن يصف به نبي فقالت: «كان خلقه القرآن» فكان الصحابة يسمعون القرآن الذي يتلى من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرون القرآن الذي يمشي على الأرض متجسداً في خلقه الكريم.
* ( وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) فهذه المهمة الثالثة تعليم الصحابة الكرام الكتاب والحكمة، فالقرآن الكريم لكي يكون مؤثراً في الأمة لا بد من المربي الرباني الذي يزكي النفوس ويطهر القلوب ويعلمها شرع الله تعالى من خلال القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فيشرح للمسلمين غامضه ويبين محكمه، ويفصل مجمله، ويسأل عن تطبيقه، ويصحح خطأ الفهم لهم إن وجد، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّم ويربي أصحابه لكي يعلموا ويربوا الناس على المنهج الرباني فتعلم الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج التعليم، ومنهج التربية ومنهج الدعوة، ومنهج القيادة للأمة من خلال ما تسمع وما تبصر، ومن خلال ما تعاني وتجاهد فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يعد الجيل إعداداً كاملاً، ومؤهلاً لقيادة البشرية، وانطلق أصحابه من بعده يحملون التربية القرآنية، والتربية النبوية إلى كل صقع، وأصبحوا شهداء على الناس.
* ( وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ماذا كانوا قبل الوحي، والرسالة وماذا أصبحوا بعد ذلك؟ كانوا في حروب وصراع وجاهلية عمياء، وأصبحوا بفضل الله ومنه وكرمه أمة عظيمة لها رسالة وهدف في الحياة، لا همَّ لها إلا العمل ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، وحققوا العبودية لله وحده، والطاعة لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وانتقلوا من نزعة الفردية والأنانية والهوى إلى البناء الجماعي، بناء الأمة، وبناء الدولة وصناعة الحضارة واستحقت بفضل الله ومنه أعظم وسامين في الوجود( ): ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) [آل عمران: 110] ووسام ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة: 143].
* ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ) [البقرة: 152] فهذه المنن، وهذه العطايا وهذه الخيرات تحتاج لذكر الله في الغدو والآصال وشكره عليها، وحثهم المولى عز وجل على ذكره، وبكرمه يذكرون في الملأ الأعلى بعدما كانوا تائهين في الصحاري ضائعين في الفيافي.
* ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ) [البقرة: 152] وحقَّ لهذه النعم جميعاً أن تشكر( ).
وهكذا، الآيات الكريمة تربي الصحابة من خلال الأحداث العظيمة، وتصوغ الشخصية المسلمة القوية التي لا ترضى إلا بالإسلام ديناً والتي تعرفت على طبيعة اليهود من خلال القرآن الكريم، وبدأت تتعمق في ثناياها طبيعتهم الحقيقية، وانتهت إلى الصورة الكلية النهائية التي تربوا عليها من خلال القرآن الكريم والتربية النبوية قال تعالى: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) [البقرة: 120].
8- من صفات اليهود في القرآن الكريم:
إن المتتبع لتاريخ اليهود ومواقفهم مع المصطفى صلى الله عليه وسلم يشاهد تلك الأفعال القبيحة والأخلاق الرذيلة التي يتصف بها هؤلاء البشر، ولا غرابة في ذلك فهي طبيعة كل آدمي ينسلخ عن دينه الصحيح، وعقيدته السليمة.
كانت معاناة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين من اليهود شديدة وأليمة، فالقرآن الكريم تحدث عن بعضها، وكتب السنة والسير والتاريخ حافلة بالأحداث الجسيمة مع اليهود، وقد تحدث القرآن الكريم، وبينت السنة النبوية صفاتهم القبيحة، كالنفاق وسوء الأدب مع الله ورسوله، والمكر والخداع، والمداهنة، وعدم الانتفاع بالعلم، والحقد والكراهية، والحسد، والجشع والبخل، ونكران الجميل، وعدم الحياء، والغرور والتكبر، وحب الظهور، والإشراك في العبادة، ومحاربة الأنبياء والصالحين، والتقليد الأعمى، وكتمان العلم، وتحريف المعلومات، والتحايل على المحرمات، والتفرق والطبقية في تنفيذ الأحكام، والرشوة، والكذب والقذارة( )، وسوف نشير إلى بعض هذه الصفات الذميمة التي جاءت في القرآن الكريم.
أ- الإشراك في العبادة:
فعبادة اليهود شركية باطلة، حيث يعتقدون أن لله ولدا، ويشركون معه في عبادته غيره، وقد سجل الله عز وجل عليهم بعض مظاهر الإشراك، قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [التوبة: 30-31].
فهم لم يكتفوا في الإشراك بالقول المتقدم بل عبدوا أنبيائهم وصالحيهم واتخذوا
قبورهم مساجد وأوثاناً يعبدونها من دون الله( ) قال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»( ).
ب- محاربة الأنبياء والصالحين:
في الوقت الذي يقدسون فيه أحبارهم ورهبانهم إلى درجة العبادة، نجد اليهود في المقابل لا يتورعون في محاربة أنبيائهم وصالحيهم، ويشنون عليهم الحملات المغرضة بشتى الطرق وكافة الوسائل، ولا يمتنعون حتى عن قتلهم، كما فعلوا بزكريا ويحيى عليهم السلام( )، وقد أخبرنا الله عز وجل عنهم بذلك فبعد أن بين عز وجل ألواناً من العذاب أوقعه عليهم قال: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) [البقرة: 61].
جـ- كتمانهم العلم وتحريفهم للحقائق:
إن كتمان العلم وتحريف الحقائق صفة ملازمة لليهود من قديم الزمن، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيل لبني إسرائيل ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ) فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شَعْرَةٍ»( ).
ومن أعظم العلوم التي كتمها أحبار اليهود، وحاولوا إخفاء حقيقتها، علم نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس قال: جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف، ورافع بن حُريـملة، فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم لأن تبينوه للناس، فبرئت من أحداثكم» قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الهدى والحق، ولا نؤمن بك ولا نتبعك( ).
فأنزل الله عز وجل فيهم: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [المائدة: 68].
د- التفرق:
إن اليهود دائماً وأبداً مختلفون في الأفكار، مفترقون في الأحكام، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، تماماً كما وصفهم الباري عز وجل في قوله تعالى: ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ) [الحشر: 14].
هـ- الرشوة:
إن من سمات اليهود في معالم مجتمعاتهم بحثهم عن تحقيق الغاية التي ينشدونها بشتى السبل والوسائل، ولو كانت مخالفة لشرعهم، كدفع الرشوة والمال الحرام، فأكل السحت من رشوة ومال حرام من طباعهم وقد وصفهم الحق سبحانه وتعالى بذلك: ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) [المائدة: 42].
و- النفاق:
وقد أظهر بعض زعماء اليهود الإسلام حين قويت شوكة المسلمين بالمدينة وتستروا بالنفاق، وقد سجل الله عليهم ذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا
خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ ) [البقرة: 14،15].
ز- المداهنة:
فكانوا يسايرون الواقع والمجتمع ولا ينكرون المنكر؛ ولذلك لعنهم الله عز وجل
وسجل لعنته عليهم في كتابه العزيز: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) [المائدة: 78،79].
حـ- عدم الانتفاع بالعلم:
وقد أخبرنا الله تعالى بذلك وصور هذه الصفة تصويراً دقيقاً( ) قال تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [الجمعة: 5].
ط- الحقد والكراهية:
من صفات اليهود المستقرة في أعماق نفوسهم الحقد على كل شيء ليس منهم والكراهية لكل ما هو غير يهودي، مهما كان نوعه ومصدره، وخاصة إذا كان يمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلة، كما حصل في أمر القبلة، وما حصل في تحريم الخمر، فعن عبد الله ابن مسعود قال: لما نزلت تحريم الخمر، قالت اليهود: أليس إخوانكم الذين ماتوا كانوا يشربونها( ) فأنزل الله عز وجل: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ) [المائدة: 93] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قيل لي: أنت منهم».
ى- الحسد:
فقد حسد اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على الرسالة، إذ كانوا يظنون أن الرسول الذي سيبعث سيكون منهم، يتجمعون حوله ويقاتلون به أعداءهم، فلما بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهم جن جنونهم، وطار صوابهم ووقفوا يعادونه عداوة شديدة، ولقد حسدوا أصحابه على الإيمان ونعمة الهدى التي شرح الله صدورهم لها ( ).
قال تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
[البقرة: 109].
ك- الغرور والتكبر:
اتصف اليهود بالغرور والتكبر على الخلق من قديم الزمان، فهم يرون أنهم أرقى من الناس، وأفضل من الناس، ويزعمون أنهم شعب الله المختار، ويعتقدون أن الجنة لليهودي، وأن طريق اليهودية هي طريق الهداية وسواها ظلال، وقد أخبر المولى عز وجل في كتابه عن هذه الخصلة الذميمة( ) فيهم قال تعالى: ( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [البقرة: 111] وقد مارسوا ذلك الغرور والتعالي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشتى الوسائل والصور، ومن ذلك هذه الصورة( )، فعن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو، وشأس بن عدي، فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه( )- كقول النصارى- فأنزل الله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَّشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) [المائدة: 18].
ل- البخل:
من صفات اليهود القديمة بخلهم بالمال، وعدم إنفاقه في سبيل الخير، فكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علام يكون( ) فأنزل الله فيهم: ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) [النساء: 37] أي من التوراة التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِم عَلِيمًا ) [النساء: 39].
م- العناد:
رغم قيام الأدلة والبراهين على صدق نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن اليهود بسبب عنادهم امتنعوا عن الإيمان، وانغمسوا في الكفر والتكذيب؛ لأن العناد يقفل العقول بأقفال الهوى، وقد بين المولى عز وجل هذه الصفة في قوله تعالى: ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إذا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) [البقرة: 145] نعم لو قدمت لهم يا محمد ألف دليل ودليل ما اقتنعوا وما غيروا وبدلوا، ويصدق( ) فيهم قول الله تعالى: ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ) [يونس: 101].
هذه بعض الصفات التي تجسدت في الشخصية اليهودية، والتي أشار القرآن الكريم
إليها لنعرف اليهود على حقيقتهم، حتى لا يغتر المسلمون بهم في أي وقت أو أي زمان
أو أي مكان.
رابعاً: ( إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ):
إن هذه الوثيقة وضحت مدى العدالة التي تميزت بها معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود، وأعطت لمواطني الدولة مفهوم الحرية الدينية، وضربت عرض الحائط بمبدأ التعصب ومصادرة الأفكار والمعتقدات، ولم تكن المسألة مسألة تكتيك مرحلي ريثما يتسنى للرسول صلى الله عليه وسلم تصفية أعدائه في الخارج لكي يبدأ تصفية أخرى إزاء أولئك الذين عاهدهم، وحاشاه، وإنما صدر هذا الموقف وفق سياسة إسلامية منبثقة من شريعة ربانية( ).
لقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود المعاهدات التي تؤمن لهم الحياة الكريمة، وفي ظل الدولة الإسلامية بحكم أنهم أهل كتاب (أهل الذمة) ولكن طبيعة اليهود الغدر والخيانة وعدم الوفاء، ولم يستطيعوا- ولن يستطيعوا لؤماً وخسة- أن يتخلوا عن تلك الصفات الذميمة فنقضوا عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت نهايتهم بما يتلاءم مع تلك الأفعال، حيث أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال بني قريظة( ) وهذا ما سوف نراه بإذن الله تعالى في هذا الكتاب، ولقد أشار القرآن الكريم إلى طبيعة اليهود مع العهود فقال تعالى: ( الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ) [الأنفال: 56].
والعهد هنا ما عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود من عهود ومواثيق بألا يحاربوه ولا يعاونوا عليه، كما بين ذلك المفسرون( ).
لقد سلك اليهود وسائل عدة ومتغايرة ومتنوعة للكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ومقاومتهم، إلا أن هذه الوسائل لم تفلح ولم تؤت ثمارها المرجوة منها، وهي القضاء على جماعة المسلمين ودولتهم وكيانهم السياسي، فما أسباب ذلك؟
بسبب تلك التربية النبوية الرشيدة التي غرست معاني الإيمان في القلوب وحققت العبودية الخالصة لله، وحاربت الشرك بجميع أشكاله، وعلمت الصحابة الأخذ بأسباب النهوض والتمكين المعنوية والمادية فقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على العزة، والنخوة، والرجولة، والشجاعة، ورفض الذل، ومقاومة الظلم، وعدم الاستسلام لمؤامرات اليهود وغيرهم، بل مقاومتها والقضاء عليها وعلى أهلها، فثابروا وصابروا حتى انتصروا على أعدائهم( ).
كان مكر اليهود في غاية الدهاء تكاد تزول منه الجبال، ولكنه لم يفلح مع الرعيل الأول بسبب القيادة النبوية والمنهج الرباني الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
إن المسلمين اليوم يتساقطون أمام المخططات اليهودية ومؤامراتها لبعدهم عن المنهاج النبوي في تربية الأمة وكيفية التعامل مع اليهود، فالأمة في أشد الحاجة للقيادة الربانية الحكيمة الواعية الموفقة من عند الله، الخبيرة بأخلاق اليهود وصفاتهم فتتعامل معهم معاملة واعية مستمدة أصولها من السياسة النبوية الراشدة في التعامل مع هذا الصنف المنحرف من البشر.
إن في عصرنا هذا تغلغت الأصابع اليهودية القذرة في مجالات عديدة من حياة الشعوب والدول تلك الأصابع التي تهدف إلى غاية محدودة هي (الفساد في الأرض) وهذا هو التعبير القرآني ( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ) [المائدة: 33].
إن استعمال الفعل المضارع في الجملة يدل على التجدد والاستمرار فليس سعيهم للفساد مرحلة تاريخية انتهت، لكنه قدرهم الكوني إلى يوم يبعثون، وقد استطاع اليهود أن يهيمنوا على كثير من مقدرات الأمم من خلال كيدهم المدروس، وفي غيبة الوجود الإسلامي القادر على إحباط مؤامراتهم وفضح ألاعيبهم.
إن العبقرية اليهودية في الهدم والتخريب ليست موضع جدل، تلك العبقرية التي تستغل الأحداث وتستثمرها لصالحها، إن لليهود وجوداً مؤثراً في الدول الكبرى، اقتصادياً، وسياسياً، وإعلامياً، ولم يكونوا غائبين عن النظامين العالميين، الرأسمالية والشيوعية، ولا عن الثورات الكبرى في العالم، وهناك عدد من المنظمات العالمية تبذل جهدا ضخماً في تحقيق أهداف اليهود، أبرزها الماسونية.. (الليونز) و(الروتاري) و(شهود يهوه)... إلخ.
ألا يحس الباحث الواعي أن في الأمر نوعاً من المبالغة المقصودة أو غير المقصودة؟
هذه الصورة الجاثمة في عقول الكثيرين أن اليهود هم الذين يحركون العالم، وهم زعماؤه السياسيون ومفكروه ومبدعوه و... و... وأن الشخصيات المهمة من غير اليهود ما هي إلا (أحجار على رقعة الشطرنج) على حد تعبير وليام غاي كار( ).
إن هذا الكم الهائل من الكتب التي تتحدث عن اليهود ودورهم العالمي الخطير تساهم في تهيئة الجو للتسليم بالأمر الواقع، وتمنح تفسيراً جاهزاً لجميع الهزائم التي منيت بها الأمة، الهزائم الحضارية والعسكرية على حد سواء.
إن إحساس الناس بأن (كل شيء) مدبر ومبيت ومدروس من قبل اليهود أو محافلهم، يقعد بهم عن المقاومة والمواجهة والجهاد، وما يقال عن اليهود يمكن أن يقال عن أي عدو آخر ينتهج سياسة الإرهاب الفكري والعسكري، فمثلا الجماعات الباطنية في العالم الإسلامي التي أصبحت ذات وجود قوي في عدد من المواقع والدول، بل وأصبح لهم وجود قائم بذاته في أكثر من بلد إسلامي.
هذه الجماعات تجد أحيانا من يهول من شأنها ويعطيها أكبر من حجمها، فكل من يتحدث مثلاً، عن هذه الفئة الغالية المنحرفة أو يكتب أو يحاضر فهو مهدد في رزقه وحياته إذن فيسكت الجميع حفاظاً على أرزاقهم وأرواحهم( ) إن هذا التضخيم الرهيب لأعدائنا اليهود ليس له حقيقة؛ لأن أولياء الشيطان كيدهم مهما عظم وكبر فهو ضعيف قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ) [النساء: 76] إن قوتهم بسبب ضعف إيماننا وبعدنا عن منهج ربنا؛ لأن الإيمان الصحيح تنهار أمامه جميع المؤامرات، وتفشل جميع الخطط، لكن لا بد من نزع عنصر الخوف الذي قتل كثيراً من الهمم، وأحبط كثيراً من الأعمال، والأحداث تؤكد أن (الوهم) قد يقتل.
وحين توجد الفئة المؤمنة الصابرة يتحطم الكيد كله، يهوديًّا، كان أم غير
يهودي، أمام عوامل التصدي والنهوض قال تعالى: ( إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) [آل عمران:120].
وهذا لا يعني بحال من الأحوال، تجاهل قوة العدو أو التقليل من شأنه حتى لو كان عدوًّا حقيرًا، فضلاً عن عدو مدجج وقديم.
والمطلوب أن نسلك طريق الاعتدال في تقدير حجم العدو، فلا نبالغ في تهويل قوته بما يوهن قوانا ويفتت عزيمتنا ويسوغ لنا الهزيمة، وفي المقابل لا نستهين به أو نتجاهل وجوده( ). وستمضي في اليهود وغيرهم سنة الله تعالى: ( إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) [يونس: 81].
* * *