وهكذا أَثَر الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، فهذه أسرة فُرِّق شملُها، وامرأة تبكي شدة مصابها، وطفل خُلعت يده وحُرم من أبويه، وزوج وأب يسجل أروع صور التضحية والتجرد، ليكون أول مهاجر يصل أرض الهجرة، محتسبين في سبيل الله ما يلقون، مصممين على المضي في طريق الإيمان، والانحياز إلى كتيبة الهدى، فماذا عسى أن ينال الكفر وصناديده من أمثال هؤلاء؟
وأما صنيع عثمان بن طلحة فقد كان يومئذ كافراً (وأسلم قبل الفتح) ومع ذلك تشهد له أم سلمة رضي الله عنها بكرم الصحبة، وذلك شاهد صدق على نفاسة هذا المعدن، وكمال مروءته، وحمايته للضعيف( )، فقد أبت عليه مروءته وخلقه العربي الأصيل أن يدع امرأة شريفة تسير وحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثاله من كفار قريش.
فأين من هذه الأخلاق، يا قوم المسلمين، أخلاق الحضارة في القرن العشرين، من سطو على الحريات، واغتصاب للأعراض، بل وعلى قارعة الطريق، وما تطالعنا به الصحافة كل يوم من أحداث يندى لها جبين الإنسانية، ومن تفنن في وسائل الاغتصاب وانتهاك الأعراض، والسطو على الأموال.
إن هذه القصة- ولها مثل ونظائر- لتشهد أن ما كان للعرب من رصيد من الفضائل كان أكثر من مثالبهم ورذائلهم، فمن ثم اختار الله منهم خاتم أنبيائه ورسله، وكانوا أهلاً لحمل الرسالة، وتبليغها للناس كافة( ).
وتظهر عناية الله تعالى بأوليائه، وتسخيره لهم، فهو جل وعلا الذي سخر قلب عثمان ابن طلحة للعناية بأم سلمة، ولذلك بذل الجهد والوقت من أجلها( ) كما تظهر سلامة فطرة عثمان بن طلحة، التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعل إضاءة قلبه بدأ منذ تلك الرحلة، في مصاحبته لأم سلمة رضي الله عنهم( ).
2- أسلوب الاختطاف:
لم تكتف قيادة قريش بالمسلمين داخل مكة، لمنعهم من الهجرة، بل تعدت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل المدينة مهاجراً، فقامت بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، ولقد نجحت هذه المحاولة وتم اختطاف أحد المهاجرين من المدينة وأعيد إلى مكة( )، وهذه الصورة التاريخية للاختطاف يحدثنا بها عمر بن الخطاب حيث قال: «اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب( ) من أضاة( ) بني غفار، فوق سرف( )، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن( ).
فلما قدمنا المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاها لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فكلماه، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها فقلت له: عياّش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.
قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول( ) فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني( ) على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ، وأناخ، ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن( ).
قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) [الزمر: 53-55].
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى( ) أُصَعَّد بها فيه وأصَوَّبُ ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها، قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة( ).
هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيداً عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه ولا ينتظرانه؛ لأنه قد حبس، وكما توقعوا فقد حبس هشام بن العاص بينما مضى عمر وعياش بهجرتهما، ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالمين( ).
إلا أن قريشاً صممت على متابعة المهاجرين؛ ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها أبو جهل، والحارث وهما أخَوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئن لهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جلياًّ عندما أظهر موافقته على العودة معهما، كما تظهر الحادثة الحس الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به عمر ، حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف( ).
كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام في هذه النفوس، فعمر يضحي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياشاً عاطفته نحو أمه، وبره بها؛ ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر ، وماله قائم في مكة لم يمس، غير أن أفق عمر كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين به( ).
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفاً ولا عدلاً من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي، فنزل قول الله تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ) وما إن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق فبعث بهذه الآية إلى أَخَوَيْهِ الحميمين عياش وهشام ليجددوا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر، أي سمو عظيم عند ابن الخطاب لقد حاول، مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله، على ألا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها، ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يَتَشَفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه، ولكل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي( ).
3- أسلوب الحبس:
لجأت قريش إلى الحبس كأسلوب لمنع الهجرة فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن من الهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسين في بيت لا سقف له( )، وذلك زيادة في التعذيب، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس وسط بيئة جبلية شديدة الحرارة مثل مكة.
فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين: أولهما منع المحبوسين من الهجرة، والآخر أن يكون هذا الحبس درساً وعظة لكل من يحاول الهجرة من أولئك الذين يفكرون فيها ممن بقي من المسلمين بمكة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكة مثل عياش، وهشام رضي الله عنهما، ولكنهم تمكنوا من الخروج واستقروا بالمدينة( ).
كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته يقنت ويدعو للمستضعفين في مكة عامة، ولبعضهم بأسمائهم خاصة، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف»( ).
ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عياش، فقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصابه وفعلاً استعد للمهمة ورتب لها ما يحقق نجاحها، وجاء إلى مكة واستطاع بكل اقتدار وذكاء أن يصل إلى البيت الذي حُبسا فيه وأطلق سراحهما، ورجع بهما إلى المدينة المنورة( ).
4- أسلوب التجريد من المال:
كان صهيب بن سنان النَّمَري من النَّمِر بن قاسط، أغارت عليهم الروم، فسبي وهو صغير، وأخذ لسان أولئك الذي سبوه، ثم تقلب في الرق، حتى ابتاعه عبد الله بن جدعان ثم أعتقه، ودخل الإسلام هو وعمار بن ياسر رضي الله عنهما في يوم واحد( ).
وكانت هجرة صهيب عملاً تتجلى فيه روعة الإيمان، وعظمة التجرد لله، حيث ضحى بكل ما يملك في سبيل الله ورسوله، واللحوق بكتيبة التوحيد والإيمان( ) فعن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: «بلغني أن صهيباً حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صعلوكا( ) حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» ( ) وعن عكرمة رحمه الله قال:«لما خرج صهيب مهاجراً تبعه أهل مكة، فنثل( ) كنانته، فأخرج منها أربعين سهمًا، فقال: لا تصلون إليّ حتى أضع في كل رجل منكم سهمًا، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني رجل، وقد خلَّفت بمكة فينتين فهما لكم) ( ) وقال عكرمة: ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) [البقرة: 207] فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبا يحيى، ربح البيع» قال: وتلا عليه( ) الآية.
لكأني( ) بصهيب يقدم الدليل القاطع على فساد عقل أولئك الماديين الذين يَزِنُون حركات التاريخ وأحداثه كلها بميزان المادة، فأين هي المادة التي سوف يكسبها صهيب في هجرته والتي ضحى من أجلها بكل ما يملك؟
هل تراه ينتظر أن يعطيه محمد صلى الله عليه وسلم منصباً يعوضه عما فقده؟ أم هل ترى محمدا صلى الله عليه وسلم يمنيه بالعيش الفاخر في جوار أهل يثرب؟
إن صهيًبا ما فعل ذلك وما انحاز إلى الفئة المؤمنة إلا ابتغاء مرضاة الله، بالغاً ما بلغ الثمن ليضرب لشباب الإسلام مثلاً في التضحية عزيزة المنال، عساهم يسيرون على الدرب، ويقتفون الأثر( ).
إن هذه المواقف الرائعة لم تكن هي كل مواقف العظمة، والشموخ في الهجرة المباركة، بل امتلأ هذا الحدث العظيم بكثير من مشاهد العظمة، والتجرد والتضحية، التي تعطي الأمة دروساً بليغة في بناء المجد وتحصيل العزة( ).
رابعًا: البيوتات الحاضنة وأثرها في النفوس:
لقد كان من نتائج إيمان الأنصار ومبايعتهم وتعهدهم بالنصرة أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الهجرة إلى المدينة، كما كان من نتائج ذلك أن ظهرت ظاهرة عظيمة من التكافل بين المسلمين، ففتحت بيوت الانصار أبوابها وقلوب أصحابها لوفود المهاجرين، واستعدت لاحتضانهم رجالاً ونساء، إذ أصبح المسكن الواحد يضم المهاجر والأنصاري، والمهاجرة والأنصارية، يتقاسمون المال والمكان والطعام والمسئولية الإسلامية، فمن هذه البيوتات الحاضنة:
1- دار مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقباء: ونزل بها مجموعة من المهاجرين نساء ورجالاً، وقد ضمت هذه الدور عمر بن الخطاب، ومن لحق به من أهله، وقومه وابنته حفصة وزوجها وعياش بن ربيعة.
2- دار خبيب بن إساف أخي بني الحارث بن الخزرج بالسنح( ) نزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان.
3- دار أسعد بن زرارة من بني النجار، قيل: نزل بها حمزة بن عبد المطلب.
4- دار سعد بن خيثمة أخي بني النجار، وكان يسمّى بيت العزاب ونزل بها الأعزاب من المهاجرين.
5- دار عبد الله بن سلمة أخي بَلْعجلان بقباء: نزل بها عبيدة بن الحارث وأمه سخيلة، ومِسْطَح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، والطفيل بن الحارث، وطُليب بن عُمير، والحصين بن الحارث نزلوا جميعاً على عبد الله بن سلمة بقباء.
6- دار بني جَحْجبتى، والمحتضن هو منذر بن محمد بن عقبة، نزل عنده الزبير بن العوام، وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سبرة بن أبي وهب وزوجته أم كلثوم بنت سهيل( ).
7- دار بني عبد الأشهل، والمحتضن هو سعد بن معاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل، نزل بها مصعب بن عمير، وزوجته حَمنة بنت جحش.
8- دار بني النجار، والمحتضن هو أوس بن ثابت بن المنذر، نزل بها عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
فهذه المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين معه، وبعده، إقامة طيبة، تنبض بالإيثار على النفس وبود الأخوة الصادقة المؤمنة( ).
بهذه الروح العالية، والإيمان الوثيق، والصدق في المعاملة، تمت المؤاخاة، وتم الوفاق بين المهاجرين والأنصار، وقد يحدث تساؤل فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟
وأين النساء وما اشتهرن به من مشاكسات؟ إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساساً لتصرف كل نفس، والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين، ونصرة الدعوة، وإنها المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق، والعمل من أجل المجموعة خوفاً من العقاب ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب وطمعاً في الجنة، إنه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية. فكل من أسلم، وكل من بايع، وكل من أسلمت وبايعت، يعملون جميعهم بما يؤمرون به ويخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت الأنصارية المهاجرة ، فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل، فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة، وأقدس واقعة، رغب الكل في الثواب حتى أن الواحد منهم يخاف ذهاب الأنصاري بالأجر كله( ).
إن جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت، إننا في عالمنا المعاصر، وفي الصف الإسلامي وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات والظنون، وهذا مجتمع يبني ولما يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، ومع ذلك تفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط، بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهراً عدة، والمعايشة اليومية مستمرة، والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم، نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلاً فقراء، بل كانوا يملكون المال، ويملكون الدار، وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كله لطاعته جل وعلا، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر:8].
كان هذا المجتمع المدني الجديد يتربى على معاني الإيمان والتقوى، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ولكن تحت إشراف النقباء الاثني عشر الذين كانوا في كفالتهم لقومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وبإشراف قيادات المهاجرين الكبرى، التي وصلت المدينة والذين استقوا جميعاً من النبع النبوي الثر، واقتبسوا من هديه( ).
ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان العصبية، فقد كان إمام المسلمين سالم مولى أبي حذيفة ؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا، فهذا المجتمع الذي يوجد فيه علية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وسادة العرب من قريش والأوس والخزرج، يقوده ويؤمه حامل القرآن، فالكرامة العليا فيه لقارئ كتاب الله وحامله، وحامل القرآن في المجتمع الإسلامي هو نفسه حامل اللواء في الحرب، فليس بينهما ذلك الانفصام الذي نشهده اليوم من حملة القرآن من الحفاظ، وبين المجاهدين في سبيل الله، فقد كان حامل لواء المهاجرين في معركة اليمامة سالم مولى أبي حذيفة، فقيل له في ذلك، فكان شعاره: بئس حامل القرآن- يعني إن فررت- فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره فقطعت، فاعتنقه إلى أن صرع، واستُشهد في سبيل الله( ).
ومن معالم المجتمع الإسلامي الجديد: حرية الدعوة إلى الله علانية، فقد أصبح واضحاً عند الجميع أن معظم قيادات يثرب دخلت في هذا الدين، ونشط الشباب والنساء، والرجال في الدعوة إلى الله، والتبشير بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدم وساق.
ولابد من المقارنة بين المجتمع الذي قام بالحبشة من المسلمين وبين المجتمع الإسلامي في يثرب، لقد كانت الحبشة تحمل طابع اللجوء السياسي، والجالية الأجنبية أكثر مما كانت تحمل طابع المجتمع الإسلامي الكامل، صحيح أن المسلمين ملكوا حرية العبادة هناك، لكنهم معزولون عن المجتمع النصراني، لم يستطيعوا أن يؤثروا فيه التأثير المنشود، وإن كانت هجرة الحبشة خطوة متقدمة على جو مكة، حيث لا تتوفر حرية الدعوة وحرية العبادة، ولكنه دون المجتمع الإسلامي في المدينة بكثير؛ ولذلك شرع مهاجرو الحبشة بمجرد سماع خبر هجرة المدينة بالتوجه نحوها مباشرة، أو عن طريق مكة إلا من طلبت منه القيادة العليا البقاء هناك، لقد أصبحت المدينة مسلمة بعد أن عاشت قرونا وثنية مشركة.
لقد أصبح المجتمع المدني مسلماً وبدأ نموه وتكوينه الفعلي بعد عودة الاثني عشر صحابياً من البيعة الأولى، والتي كان على رأسها الصحابي الجليل أسعد بن زرارة، والتي حملت المسؤولية الدعوية فقط، دون الوجود السياسي، وبلغ أوج توسعه وبنائه بعد عودة السبعين الذين ملكوا الشارع السياسي والاجتماعي، وقرروا أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى في الأرض وهم على استعداد أن يواجهوا كل عدو خارجي، يمكن أن ينال من هذه السيادة حتى قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في المدينة.
إن القاعدة الصلبة التي بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً وجهداً في تربيتها، بدأت تعطي ثمارها أكثر بعد أن التحمت بالمجتمع المدني الجديد، وانصهر كلاهما في معاني العقيدة وإخوة الدين.
لقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأفراد وصقلهم في بوتقة الجماعة، وكون بهم القاعدة الصلبة، ولم يقم المجتمع الإسلامي الذي تقوم عليه الدولة إلا بعد بيعة الحرب؛ وبذلك نقول بأن المجتمع الإسلامي قام بعد ما تهيأت القوة المناسبة لحمايته في الأرض( ).
وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظمة القوية إلى المدينة، والتحمت مع إخوانها الأنصار، وتشكل المجتمع المسلم الذي أصبح ينتظر قائده الأعلى عليه الصلاة والسلام، ليعلن ولادة دولة الإسلام، التي صنعت فيما بعد حضارة لم يعرف التاريخ مثلها حتى يومنا هذا.
خامساً: لماذا اختيرت المدينة كعاصمة للدولة الإسلامية؟
كان من حكمة الله تعالى في اختيار المدينة دارًا للهجرة ومركزًا للدعوة- هذا عدا ما أراده الله من إكرام أهلها وأسرار لا يعلمها إلا الله- إنها امتازت بتحصن طبيعي حربي، لا تزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة، فكانت حرة الوبرة مطبقة على المدينة من الناحية الغربية وحرة واقم، مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب)، وكانت الجهة الأخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النخيل الزروع الكثيفة لا يمر منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكري، وترتيب الصفوف.
وكانت خفارات عسكرية صغيرة كافية بإفساد النظام العسكري ومنعه من التقدم يقول ابن إسحاق: «كان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لا يتمكن العدو منها»( ).
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهية في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة: «إني رأيت دار هجرتكم، ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان» ( ). فهاجر من هاجر قِبَل المدينة.
وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة إتاوة أو جباية، يقول ابن خلدون: ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملتهم من جاورهم من قبائل مضر.
وكان بنو عدي بن النجار أخواله صلى الله عليه وسلم، فأم عبد المطلب بن هاشم إحدى نسائهم، فقد تزوج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وولدت لهاشم عبد المطلب، وتركه هاشم عندها، حتى صار غلاماً دون المراهقة، ثم احتمله عمه المطلب، فجاء به إلى مكة، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعية، ومنهم أبو أيوب الأنصاري الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره في المدينة.
وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون ومن سبق إلى الإسلام في مكة وما حولها من عدنان، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره، اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسدٍ واحدِ، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهلية، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلاً إلى قلوبهم لإثارة الفتنة والتعزي بعزاء الجاهلية، باسم الحمية القحطانية أو العدنانية، فكانت لكل ذلك مدينة يثرب أصلح مكان لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتخاذهم لها داراً وقراراً، حتى يقوى الإسلام ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن( ).
سادسًا: من فضائل المدينة:
لقد عظُم شرف المدينة المنورة المباركة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، حتى فضلت على سائر بقاع الأرض حاشا مكة المكرمة، وفضائلها كثيرة منها:
1- محبته صلى الله عليه وسلم لها ودعاؤه لها:
دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه قائلا: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد»( ) وعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر، فأبصر إلى درجات المدينة( )، أَوْضَع ناقته( ) وإن كان على دابة حركها» قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد «حركها من حبها»( ).
2- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بضعفي ما في مكة من البركة:
فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة»( )، وعن أبي هريرة قال: «كان الناس إذا رأوا أول أثمر جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر( ).
3- عصمتها من الدجال والطاعون ببركته صلى الله عليه وسلم:
إن الله تعالى قيض لها ملائكة يحرسونها، فلا يستطيع الدجال إليها سبيلاً، بل يلقى إليه بإخوانه من الكفار والمنافقين، كما أن من لوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصحة ورفع الوباء ألا ينزل بها الطاعون، كما أخبر بذلك المعصوم( ) صلى الله عليه وسلم.
4- فضيلة الصبر على شدتها:
فقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم من صبر على شدة المدينة وضيق عيشها بالشفاعة يوم القيامة( ) فعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها( ) وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة»( ).
5- فضيلة الموت فيها:
فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها»( )، وكان عمر بن الخطاب يدعو بهذا الدعاء: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم)( ).
وقد استجاب الله للفاروق فاستشهد في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤم المسلمين في صلاة الفجر.
6- هي كهف الإيمان وتنفي الخبث عنها:
فالإيمان يلجأ إليها مهما ضاقت به البلاد، والأخباث والأشرار لا مقام لهم فيها
ولا استقرار، ولا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه من المؤمنين الصادقين( ) فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرِز( ) إلى المدينة كما تأرِز الحية إلى جحرها»( )، وقال صلى الله عليه وسلم: «... والذي نفسي بيده لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد»( ).
7- تنفي الذنوب والأوزار:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها –أي المدينة– طيبة تنفي الذنوب( ) كما تنفي النار خبث الفضة»( ).
8- حفظ الله إياها ممن يريدها بسوء:
فقد تكفل الله بحفظها من كل قاصد إياها بسوء، وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم من أحدث فيها حدثاً، أو آوى فيها محدثاً، أو أخاف أهلها، بلعنة الله وعذابه، وبالهلاك العاجل( ) فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع( ) كما ينماع الملح في الماء»( )، وقال صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم الله، فمن أحدث فيها حدثاً( ) أو آوى محدثاً( ) فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ، ولا صرفٌ»( ).
9- تحريمها:
فقد حرمها النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله فلا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يروع فيها أحد، ولا يقطع فيها شجر، ولا تحل لُقَطَتها إلا لمنشد، وغير ذلك ما يدخل في تحريمها قال صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة»( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها»( )يعني المدينة، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يختلي خلاها( )ولا ينفر صيدها( )ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ( )ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيرة ولا تحمل فيها السلاح لقتال» ( ).
إن هذه الفضائل العظيمة جعلت الصحابة يتعلقون بها، ويحرصون على الهجرة إليها، والمقام فيها، وبذلك تجمعت طاقات الأمة فيها، ثم توجهت نحو القضاء على الشرك بأنواعه، والكفر بأشكاله، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها.
* * *