المبحث الثالث
دروس وعبر وفوائد
أولا: مواقف دعوية وقدرة رفيعة في التعامل مع النفوس:
1- إسلام سهيل بن عمرو:
قال سهيل بن عمرو: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وظهر، انقحمت( ) بيتي وأغلقت عليَّ بابي، وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن اطلب لي جوارًا من محمد، وإني لا آمن من أن أقتل، وجعلت أتذكر أثري عند محمد وأصحابه فليس أحد أسوأ أثرًا مني، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلحقه أحد، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدرًا وأحدًا، وكلما تحركت قريش كنت فيها، فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله, تؤمنه؟ فقال: «نعم»، هو آمن بأمان الله، فليظهر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه، فليخرج, فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف, وما مثل سهيل يجهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بنافع» فخرج عبد الله إلى أبيه، فقال سهيل: كان والله برًّا، صغيرًا وكبيرًا. فكان سهيل يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على شركه حتى أسلم بالجعرانة( ).
لقد كان لهذه الكلمات التربوية الأثر الكبير على سهيل بن عمرو, حيث أثنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبر طوال عمره، ثم دخل في الإسلام بعد ذلك، وقد حسن إسلامه وكان مكثرًا من الأعمال الصالحة( ) يقول الزبير بن بكار: كان سهيل بعدُ كثير الصلاة والصوم والصدقة، خرج بجماعته إلى الشام مجاهدًا، ويقال: إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير، وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن، وكان أميرًا على كردوس( ) يوم اليرموك( ).
2- إسلام صفوان بن أمية:
قال عبد الله بن الزبير :... وأما صفوان بن أمية فهرب حتى أتى الشعيبة( ) وجعل يقول لغلامه يسار وليس معه غيره: ويحك, انظر من ترى, قال: هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ والله ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمدا عليَّ. فلحقه فقال: يا عمير، ما كفاك ما صنعت بي؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي، قال: أبا وهب جعلت فداك، جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس. وقد كان عمير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، سيد قومي خرج هاربًا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه فداك أبي وأمي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أمنته»، فخرج في أثره فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنك، فقال صفوان: لا والله، لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، جئت صفوان هاربًا يريد أن يقتل نفسه فأخبرته بما أمنته فقال: لا أرجع حتى تأتي بعلامة أعرفها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ عمامتي».
قال: فرجع عمير إليه بها، وهو البرد الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معتجرًا( ) به، بُرد حَبَرة( ) فخرج عمير في طلبه الثانية، حتى جاء بالبُرد فقال: أبا وهب جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك, ابن أمك وأبيك، اذكر الله في نفسك، قال له: أخاف أن أقتل، قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سيرك شهرين، فهو أوفى الناس وأبرهم، وقد بعث إليك ببرده الذي دخل فيه معتجرًا، تعرفه؟ قال: نعم، فأخرجه، فقال: نعم، هو هو، فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالمسلمين العصر بالمسجد، فوقفا، فقال صفوان: كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال: خمس صلوات، قال: يصلي بهم محمد؟ قال: نعم، فلما سلم صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرًا وإلا سيرتني شهرين، قال: «انزل أبا وهب» قال: لا والله حتى تبين لي, قال: «بل تُسيَّر أربعة أشهر» فنزل صفوان.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن وخرج معه صفوان وهو كافر، وأرسل إليه يستعيره سلاحه، فأعاره سلاحه مائة درع بأداتها، فقال: طوعًا أو كرهًا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عارية مؤداة» فأعاره، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملها إلى حنين، فشهد حنينًا، والطائف ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان بن أمية جعل صفوان ينظر إلى شعب مليء نعمًا وشاء ورعاء فأدام إليه النظر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه, فقال: «أبا وهب، يعجبك هذا الشعب؟» قال: نعم، قال: «هو لك وما فيه», فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. وأسلم مكانه( ).
ونلاحظ في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول أن يتألف صفوان بن أمية إلى الإسلام حتى أسلم، وذلك بإعطائه الأمان ثم بتخييره في الأمر أربعة أشهر، ثم بإعطائه من مال العطايا الكبيرة التي لا تصدر من إنسان عادي، فأعطاه أولا مائة من الإبل مع عدد من زعماء مكة, ثم أعطاه ما في أحد الشعاب من الإبل والغنم فقال: ما طابت نفس أحد بهذا إلا نفس نبي. ثم أسلم مكانه( )، وقد وصف لنا صفوان بن أمية عطاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (والله لقد
أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ)( ).
3- إسلام عكرمة بن أبي جهل:
قال عبد الله بن الزبير : قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمِّنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو آمن», فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت على حيٍّ من عكٍّ( ) فاستغاثتهم عليه فأوثقوه رباطًا، وأدركت عكرمة، وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة فركب البحر، فجعل نُوتيَّ السفينة يقول له: أخلص، فقال: أي شيء أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله، قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، فجاءت أم حكيم على هذا الكلام، فجعلت تلح عليه وتقول: يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس, وأبرّ الناس, وخير الناس، لا تهلك نفسك. فوقف لها حتى أدركته فقالت: إني قد استأمنت لك محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك. فرجع معها وقال: ما لقيتِ من غلامك الرومي؟ فخبرته خبره فقتله عكرمة، وهو يومئذ لم يسلم، فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت».
قال: وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها، فتأبى عليه، وتقول: إنك كافر وأنا مسلمة، فيقول: إن أمرًا منعك مني لأمر كبير، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عكرمة وثب إليه -وما على النبي صلى الله عليه وسلم رداء- فرحا بعكرمة، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف بين يديه، وزوجته متنقبة، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت، فأنت آمن» فقال عكرمة: فإلامَ تدعو يا محمد؟ قال: «أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتفعل وتفعل» حتى عد خصال الإسلام، فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق وأمر حسن جميل، قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا، ثم قال عكرمة: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله علمني خير شيء أقوله، قال: «تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله» قال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقول: أشهد الله وأُشهد من حضر أني مسلم مهاجر ومجاهد» فقال عكرمة ذلك.
فقال رسول الله: «لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدًا إلا أعطيتكه» فقال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسير وضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض، في وجهي أو وأنا غائب عنه» فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدّ عن سبيل الإسلام إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله, ثم اجتهد في القتال حتى قُتل شهيدًا( ).
وبعد أن أسلم ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته له بذلك النكاح الأول( ).
كان سلوك النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع عكرمة لطيفًا حانيًا يكفي وحده لاجتذابه إلى الإسلام، فقد أعجل نفسه عن لبس ردائه، وابتسم له ورحب به, وفي رواية قال له: «مرحبا بالراكب المهاجر»( ) فتأثر عكرمة من ذلك الموقف فاهتزت مشاعره وتحركت أحاسيسه، فأسلم، كما كان لموقف أم حكيم بنت الحارث بن هشام أثر في إسلام زوجها، فقد أخذت له الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغامرت بنفسها تبحث عنه لعل الله يهديه إلى الإسلام كما هداها إليه، وعندما أرادها زوجها امتنعت عنه وعللت ذلك بأنه كافر وهي مسلمة، فعظم الإسلام في عينه وأدرك أنه أمام دين عظيم، وهكذا خطت أم حكيم في فكر عكرمة بداية التفكير في الإسلام ثم توج بإسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صادقًا في إسلامه, فلم يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم دنيا, وإنما سأله أن يغفر الله تعالى له كل ما وقع فيه من ذنوب ماضية، ثم أقسم أمام النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحمل نفسه على الإنفاق في سبيل الله تعالى بضعف ما كان ينفق في الجاهلية، وأن يبلي في الجهاد في سبيل الله بضعف ما كان يبذله في الجاهلية، ولقد بر بوعده فكان من أشجع المجاهدين والقادة في سبيل الله تعالى في حروب الردة ثم في فتوح الشام حتى وقع شهيدًا في معركة اليرموك بعد أن بذل نفسه وماله في سبيل الله( ).
4- مثل من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم: إسلام والد أبي بكر:
قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟» قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، قالت: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: «أسلم» فأسلم، قالت: فدخل به أبو بكر وكأن رأسه ثغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروا هذا من شعره»( ) ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنأ أبا بكر بإسلام أبيه( ).
وفي هذا الخبر منهج نبوي كريم سنه النبي صلى الله عليه وسلم في توقير كبار السن واحترامهم, ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا»( ) وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم»( ) كما أنه صلى الله عليه وسلم سن إكرام أقارب ذوي البلاء والبذل والعطاء والسبق في الإسلام؛ تقديرًا لهم على ما بذلوه من الخدمة للإسلام والمسلمين ونصر دعوة الله تعالى( ).
5- مثل من عفو النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه: إسلام فضالة بن عمير:
أراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضالة؟» قال: نعم، فضالة يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: لا شيء، كنت أذكر الله، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «استغفر الله», ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليَّ منه، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول:
يأبى عليك اللهُ والإسلامُ
قالت هلمَّ إلى الحديث فقلت لا
بالفتح يوم تكسر الأصنام
لو ما رأيت محمدًا وقبيله
والشرك يغشى وجهَه الإظلام( )
لرأيت دين الله أضحى بينا
ثانيًا: أتكلمني في حد من حدود الله؟
قال عروة بن الزبير: إن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه، قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها تلوَّن وجه رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله خطيبًا فأثنى على الله بما هو أهله, ثم قال: «أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها.
فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت، قالت عائشة: فكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
وهكذا يستمر البناء التربوي للأمة، ونرى العدل في إقامة شرع الله على القريب والبعيد على حد سواء، ووجدت قريش نفسها أمام تشريع رباني لا يفرق بين الناس، فهم كلهم أمام رب العالمين سواء، وأصبحت معايير الشرف هي الالتزام بأوامر الله تعالى، وفي هذا الموقف الذي أثار غضب رسول الله الشديد واهتمامه الكبير, عبرة للمسلمين حتى لا يتهاونوا في تنفيذ أحكام الله تعالى، أو يشفعوا لدى الحاكم، من أجل تعطيل الحدود الإسلامية( ).
ثالثًا: أجرْنا من أجرتِ يا أم هانئ:
قالت أم هانئ بنت أبي طالب: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إليَّ رجلان من أحمائي، من بني مخزوم, وكانت عند هُبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل علي بن أبي طالب أخي، فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه, فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إليَّ فقال: «مرحبًا وأهلا يا أم هانئ, ما جاء بك؟» فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال: «قد أجرْنا من أجرتِ وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما»( ).
رابعًا: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين:
كان عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد أسلم وكتب الوحي ثم ارتد, فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة -وقد أهدر دمه- فر إلى عثمان -وكان أخاه من الرضاعة- فلما جاء به ليستأمن له صمت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: «نعم», فلما انصرف مع عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد صمت فيقتله؟» فقالوا: يا رسول الله، هلا أومأت إلينا؟ فقال: «إن النبي لا يقتل بإشارة»( ), وفي رواية: «إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين»( ).
قال ابن هشام: وقد حسن إسلامه بعد ذلك وولاه عمر بعض أعماله ثم ولاه عثمان( ).
وقال ابن كثير: ومات وهو ساجد في صلاة الصبح أو بعد انقضاء صلاتها في بيته( ).
خامسًا: المحيا محياكم والممات مماتكم:
قال أبو هريرة: ... أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه، فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره، ويدعوه, قال: والأنصار تحته، قال: يقول بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي, قال: فلما قضى الوحي رفع رأسه ثم قال: يا معشر الأنصار قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته؟ قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذن؟ كلا, إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم، قال: فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الظن بالله ورسوله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن الله ورسوله ليصدقانكم ويعذرانكم»( ).
سادسًا: إسلام عبد الله بن الزِّبَعْرَى شاعر قريش:
لما فتحت مكة فر عبد الله بن الزِّبَعْرَى السهمي إلى نجران فلحقته قوافي حسان, فقد كان خصمًا عنيدًا للإسلام، فراح يعيره بالجبن والفرار فقال له:
نجران من عيش أحذَّ لئيم( )
لا تعد منْ رجلاً أحلك بغضه
أي فليبق الله لنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هذا الرجل العظيم الذي أحللك بغضه ديار نجران، وليدم الله عليك ابن الزبعرى عيشا ذليلا مهينا أشأم.
ثم راح حسان يستنزل غضب الله ومقته على ابن الزبعرى، وعلى نجله ويسأله الله تعالى أن يخلده في سوء العذاب وأليمه( ):
وعذاب سوء في الحياة مقيم
غضب الإله على الزبعرى وابنه
فتطايرت تلك الأبيات ووصلت إلى ابن الزبعرى، فقام وقعد وقلب أموره، ثم أراد الله به الخير فعزم على الدخول في الإسلام, ثم توجه إلى مكة وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن إسلامه, وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له كل عداوة له وللإسلام, فقال له رسول الله: «إن الإسلام يجب ما قبله»( ) ثم أدناه رسول الله منه وآنسه، ثم خلع عليه حلة( ) وقد أجمع الرواة أن ابن الزبعرى قال بعد إسلامه شعرًا كثيرًا حسنًا يعتذر فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم( ). قال ابن عبد البر رحمه الله: وله –ابن الزبعرى– في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أشعار كثيرة، ينسخ بها ما قد مضى من شعره في كفره( ).
وكذا نص ابن حجر في الإصابة: ثم أسلم ومدح النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بحلة( )، وقال القرطبي: (وكان شاعرًا مجيدًا، وله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، أشعارٌ كثيرة، ينسخ بها ما قد مضى في كفره( )...) وقال ابن كثير: كان من أكبر أعداء الإسلام ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء المسلمين، ثم منَّ الله عليه بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الإسلام والقيام بنصره والذب عنه( ).
سابعًا: من الأحكام الشرعية التي تؤخذ من الغزوة, ومكان نزول الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة:
1- اتضحت كثير من الأحكام الشرعية خلال فتح مكة منها:
أ- جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية؛ حيث صام الرسول في مسيرة الجيش من المدينة حتى بلغ كديدًا فأفطر( ).
ب- صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى ثماني ركعات خفيفة( ) واستدل قوم بهذا على أنها سنة مؤكدة( ).
ج- قصر الصلاة الرباعية للمسافر، فقد أقام النبي بمكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة( ).
د- تحريم نكاح المتعة إلى الأبد بعد إباحته لمدة ثلاث أيام( ). ويرى الإمام النووي( ) أنه وقع تحريمه وإباحته مرتين؛ إذ كان حلالاً قبل غزوة خيبر، فحرم يومها، ثم أبيح يوم الفتح، ثم حرم للمرة الثانية إلى الأبد. ويرى ابن القيم( ) أن المتعة لم تحرم يوم خيبر، وإنما كان تحريمها فقط يوم الفتح، وله في هذا مناقشة طويلة عند كلامه عن الأحكام الفقهية المستنبطة من أحداث غزوة خيبر وغزوة الفتح, والمتفق عليه أنها حرمت إلى الأبد بعد الفتح( ).
هـ- قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الولد للفراش وللعاهر الحجر كما جاء ذلك في حديث ابن وليدة بن زمعة، فقد تنازع فيه سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زمعة، فقضى فيه رسول الله لعبد الله بن زمعة لأنه ولد على فراش أبيه( ).
و- عدم جواز الوصية بأكثر من ثلث المال، كما في قصة سعد بن أبي وقاص حين مرضه بمكة واستشارة الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يوصي بأكثر من الثلث( ).
هذه بعض الأحكام الفقهية المستنبطة من أحداث الغزوة والفتح العظيم.
2- مكان نزول الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة:
نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون في المكان الذي تعاقدت فيه قريش على مقاطعة بني هاشم والمسلمين، وقال عندما سأله أسامة بن زيد إن كان سينزل في بيته: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» مبينا أنه لا يرث المسلمُ الكافرَ( ). وكان عقيل قد ورث أبا طالب هو وطالب أخوه وباع الدور كلها، وأما علي وجعفر فلم يرثاه؛ لأنهما مسلمان وأبو طالب مات كافرًا( ).
ثامنًا: من نتائج فتح مكة:
كان لفتح مكة نتائج كثيرة منها:
1- دخلت مكة تحت نفوذ المسلمين, وزالت دولة الكفر منها, وحانت الفرصة للقضاء على جيوب الشرك في حنين والطائف, ومن ثم إلى العالم أجمع.
2- أصبح المسلمون قوى عظمى في جزيرة العرب. وبعد فتح مكة، تحققت أمنية الرسول صلى الله عليه وسلم بدخول قريش في الإسلام, وبرزت قوة كبرى في الجزيرة العربية لا يستطيع أي تجمع قبلي الوقوف في وجهها، وهي مؤهلة لتوحيد العرب تحت راية الإسلام ثم الانطلاق إلى الأقطار المجاورة، لإزالة حكومات الظلم والطغيان، وتأمين الحرية لخلق الله لكي يدخلوا في دين الله، ويعبدوه وحده من دون سواه( ).
3- كان لهذا الفتح آثار عظيمة دينية وسياسية واجتماعية, وقد بدأت هذه الآثار بصورة يلمسها كل من يمعن النظر في هذا الفتح المبارك، فأما الآثار الاجتماعية فتمثلت في رفقه صلى الله عليه وسلم بالناس وحرصه على الأخذ بأيديهم ليعيد إليهم ثقتهم بأنفسهم، وبالوضع الجديد الذي سيطر على بلدهم, وتعيين من يعلمهم، ويفقههم في دينهم، فقد أبقى معاذ بن جبل في مكة بعد انصرافه عنها ليصلي بالناس، ويفقههم في دينهم، وأما الآثار السياسية فقد عين عتاب بن أسيد أميرًا على مكة، يحكم في الناس بكتاب الله، فيأخذ لضعيفهم، وينتصر للمظلوم من الظالم( )، وأما الآثار الدينية فإن فتح مكة وخضوعها لسلطان الإسلام, قد أقنع العرب جميعًا بأن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده فدخلوا فيه أفواجا( ).
4- تحقق وعد الله بالتمكين للمؤمنين الصادقين بعد ما ضحوا بالغالي والنفيس, وحققوا شروط التمكين وأخذوا بأسبابه, وقطعوا مراحله وتعاملوا مع سننه كسنة الابتلاء، والتدافع، والتدرج، وتغير النفوس، والأخذ بالأسباب، ولا ننسى تلك الصورة الرائعة وهي وقوف بلال فوق الكعبة مؤذنًا للصلاة بعد أن عذب في بطحاء مكة وهو يردد: «أحد أحد» في أغلاله وحديده، ها هو اليوم قد صعد فوق الكعبة، ويرفع صوته الجميل بالأذان وهو في نشوة الإيمان.
* * *