المبحث الثاني
خطة النبي صلى الله عليه وسلم لدخول مكة وفتحها
أولاً: توزيع المهام بين قادة الصحابة:
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي طوى( ) وزع المهام، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة( ) وبطن الوادي، فقال: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار» فدعاهم فجاءوا يهرولون، فقال: «يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟» قالوا: نعم، قال: «انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا» وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال: «موعدكم الصفا»( ).
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم, وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأمره أن يغرز رايته بالحجون, ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم( ). وبهذا كانت المسئوليات واضحة، وكل قد عرف ما أسند إليه من مهام والطريق الذي ينبغي أن يسير فيه( ).
ودخلت قوات المسلمين مكة من جهاتها الأربع في آنٍ واحدٍ, ولم تلق تلك القوات مقاومة، وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربة قاضية لفلول المشركين، حيث عجزت عن التجمع, وضاعت منها فرصة المقاومة، وهذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد، ونجحت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم يستطع المشركون المقاومة، ولا الصمود أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى، فاحتل كل فيلق منطقته التي وجه إليها، في سلم واستسلام، إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد( ), فقد تجمع متطرفو قريش ومنهم صفوان بن أمية, وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان اسمه (الخندمة) وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام, وصمموا على القتال، فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالانقضاض عليهم, وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة الضعيفة وشتت شمل أفرادها، وبذلك أكمل الجيش السيطرة على مكة المكرمة( ). وقد حدثتنا كتب السيرة والتاريخ عن قصة حماس بن خالد من قبيلة بني بكر، فقد أعد سلاحًا لمقاتلة المسلمين، وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهده تسأله: لماذا تعدُّ ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، وقالت امرأته له يومًا: والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وصحبه شيء، فقال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم.. ثم قال:
هذا سلاح كامل وألَّة( )
إن يقبلوا اليوم فما لي علة
وذو غرارين سريع السلة
فلما جاء يوم الفتح ناوش حماس هذا شيئًا من قتال مع رجال عكرمة, ثم أحس بالمشركين يتطايرون من حوله أمام جيش خالد، فخرج منهزمًا حتى بلغ بيته فقال لامرأته: أغلقي عليَّ الباب...
فقالت المرأة لفارسها المعلم: فأين ما كنت تقول؟
فقال يعتذر لها:
إنك لو شهدت يوم الخندمة
إذ فر صــفوان وفــر عكرمة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة( )
واستقبلتهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضربًا فلا تسمع إلا غمغمة
لهم نهيتٌ( ) خلفنا وهمهمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمة( )
لقد أعلن في مكة قبيل دخول جيش المسلمين أسلوب منع التجول؛ لكي يتمكنوا من دخول مكة بأقل قدر من الاشتباكات والاستفزازات، وإراقة الدماء، وكان الشعار المرفوع: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، وجعل صلى الله عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون أبو سفيان ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدوء, ويستخدمه كمفتاح أمان يفتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء, ويشبع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو سفيان حتى يتمكن الإيمان من قلبه( ).
لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعًا ونادى بأعلى صوته:
يا معشر قريش, هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميث الدسم الأحمس -تشبهه بالزق لسمنه-، قبح من طليعة قوم. قال: ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؟! قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد( ).
وحرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكداء التي بأعلى مكة( ) تحقيقًا لقول صاحبه الشاعر المبدع حسان بن ثابت, حين هجا قريشا وأخبرهم بأن خيل الله تعالى ستدخل من كداء, وتعد هذه القصيدة من أروع ما قال حسان, حيث قال:
تثير النقع( ) موعدها كداء
عدمنا خيلنا إن لم تروها
على أكتافها الأسل الظماء
ينازعن الأعنة مصغيات
يلطمهن بالخُمُرِ النساء
تظل جيادنا متمطرات
وكان الفتح وانكشف الغطاء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا
يعز( ) الله فيه من يشاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
وروح القدس ليس له كفاء
وجبريل رسول الله فينا
يقول الحق إن نفع البلاء
وقال الله قد أرسلت عبدا
فقلتم لا نقوم ولا نشاء
شهدت به فقوموا صدقوه
هم الأنصار عرصتها اللقاء
وقال الله قد سيرت جندًا
سباب أو قتال أو هجاء
لنا في كل يوم من معد
ونضرب حين تختلط الدماء
فنحكم بالقوافي من هجانا
مغلغلة( ) فقد برح الخفاء
ألا أبلغ أبا سفيان عني
وعبد الدار سادتها الإماء
بأن سيوفنا تركتك عبدًا
وعند الله في ذاك الجزاء
هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه
فشركما لخيركما الفداء
أتهجوه ولست له بكفء؟!
أمين الله شيمته الوفاء
هجوت مباركًا برًّا حنيفًا
ويحمده وينصره سواء
أمن يهجو رسول الله منكم
لعرض محمد منكم وقاء
فإن أبي ووالده وعرضي
وبحري لا تكدره الدلاء( )
لساني صارم لا عيب فيه
ومما يؤيد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دخوله من كداء ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر( )؛ فتبسم إلى أبي بكر فقال: «يا أبا بكر, كيف قال حسان؟» فأنشده قوله:
تلطمهن بالخُمُر النساء( )
تظل جيادنا متمطرات
ثانيًا: دخول خاشع متواضع، لا دخول فاتح متعالٍ:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام( ), وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح( ) مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز( ), وعندما دخل مكة فاتحًا -وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحي والسياسي- رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد( ) -وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولم يردف أحدا من أبناء بني هاشم وأبناء أشراف قريش وهم كثير، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمانٍ من الهجرة( ).
يقول محمد الغزالي في وصف دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة:
على حين كان الجيش الزاحف يتقدم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته تتوج هامته عمامة دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشع لله، لقد انحنى على رحله وبدا عليه التواضع الجمّ.. إن الموكب الفخم المهيب الذي ينساب به حثيثا إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذي يحف به ينتظر إشارة منه فلا يبقى بمكة شيء آمن، إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل الفصول: كيف خرج مطاردًا؟ وكيف يعود اليوم منصورًا مؤيدًا؟ وأي كرامة عظمى حفه الله بها هذا الصباح الميمون؟ وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعًا وانحناء...( ).
هذا وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تأمين الجبهة الداخلية في مكة عند دخوله يوم الفتح؛ ولذلك عندما بلغته مقولة سعد بن عبادة لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم نستحل الكعبة, قال صلى الله عليه وسلم: «هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة»( )، وأخذ الراية من سعد بن عبادة وسلمها لابنه قيس بن سعد؛ وبهذا التصرف الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها، وفي نفس الوقت لم يثره, ولا أثار الأنصاري، فهو لم يأخذ الراية من أنصاري ويسلمها لمهاجر، بل أخذها من أنصاري وسلمها لابنه، ومن طبيعة البشر ألا يرضى الإنسان بأن يكون أحد أفضل منه إلا ابنه( ).
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: ( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) [الإسراء:81] ( جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) [سبأ:49] والأصنام تتساقط على وجوهها( ) وإنه لمظهر رائع لنصر الله وعظيم تأييده لرسوله، إذ كان يطعن تلك الآلهة الزائفة المنثورة حول الكعبة بعصا معه، فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه أو ينقلب على ظهره جذاذًا( ), ورأى في الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت( ) وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور، وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي يديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله؛ لقد علموا ما استقسما بها قط...»( ).
ثم دخل البيت وكبَّر في نواحيه ثم صلى, فقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقها عليه ثم مكث فيها, قال ابن عمر: فسألت بلالا حين خرج: ما صنع رسول الله؟ قال: جعل عمودين عن يساره وعمودًا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه -وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة- ثم صلى( ).
وكان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة، قبل أن يسلم، فأراد علي أن يكون المفتاح له مع السقاية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة ورده إليه قائلا: اليوم يوم بر ووفاء( )، وكان صلى الله عليه وسلم قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول ونال منه، فحلم عنه, وقال: «يا عثمان، لعلك ترى هذا المفتاح يومًا بيدي, أضعه حيث شئت» فقال: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال: «بل عمرت وعزت يومئذ»، ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعًا، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال( ), ولقد أعطى له رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة قائلا له: «هاك مفتاحك يا عثمان, اليوم يوم بر ووفاء( )، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم»( ) وهكذا لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستبد بمفتاح الكعبة، بل لم يشأ أن يضعه في أحد من بني هاشم، وقد تطاول لأخذه رجال منهم، لما في ذلك من الإثارة، ولما به من مظاهر السيطرة وبسط النفوذ، وليست هذه من مهام النبوة بإطلاق... هذا مفهوم الفتح الأعظم في شرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر والوفاء حتى للذين غدروا ومكروا، وتطاولوا( ).
هذا, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يصعد فوق ظهر الكعبة فيؤذن للصلاة, فصعد بلال وأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم في حلم، إن هذه الكلمات تقصف في الجو فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين؛ فلا يملكون أمام دويها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر( ).
ذلك الصوت الذي كان يهمس يومًا ما تحت أسواط العذاب: أحد، أحد، أحد.. ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والكل خاشع منصت خاضع( ).
ثالثًا: إعلان العفو العام:
1- نال أهل مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم, وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم, فقال: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» فقالوا: خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ، فقال: ( لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ) [يوسف:92]( ).
وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي, وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها, وعدم فرض الخراج عليها، فلم تعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى المفتوحة عنوة؛ لقدسيتها وحرمتها، فإنها دار النسك, ومتعبد الخلق, وحرم الرب تعالى، لذلك ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ولا إجارة بيوتها؛ فهي مناخ لمن سبق، يسكن أهلها فيما يحتاجون إلى سكناه من دورها، وما فضل عن حاجتهم فهو لإقامة الحجاج والمعتمرين والعباد القاصدين، وذهب آخرون إلى جواز بيع أراضي مكة وإجارة بيوتها، وأدلتهم قوية في حين أن أدلة المانعين مرسلة وموقوفة( ).
2- إهدار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الدماء:
إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم الأصيل, الذي لا بد أن تتصف به القيادة الحكيمة الرشيدة، ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر رجلا أمر بقتلهم، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة؛ لأنهم عظمت جرائمهم في حق الله ورسوله، وحق الإسلام، ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس بعد الفتح( ).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد جمعت أسماءهم من متفرقات الأخبار، وهم: عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيد -مصغرًا- ومقيس بن حبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل: فرتني وقريبة، وسارة مولاة بني عبد المطلب، وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلال الخزاعي, وذكر الحاكم أن فيمن أهدر دمه كعب بن زهير، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة( ).
ومن هؤلاء من قُتل، ومنهم من جاء مسلمًا تائبًا فعفا عنه الرسول، وحسُن إسلامه( ).
3- خطبة النبي صلى الله عليه وسلم غداة الفتح وإسلام أهل مكة:
وفي غداة الفتح بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل فقتلوه - وهو مشرك- برجل قتل في الجاهلية، فغضب وقام بين الناس خطيبًا فقال: «يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد –يقطع- فيها شجرًا, لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي, ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبًا على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم.
يا معشر خزاعة, ارفعوا أيديكم عن القتل, فلقد كثر أن يقع، لقد قتلتم قتيلا لأدينَّه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله»( ).
كان من أثر عفو النبي صلى الله عليه وسلم الشامل عن أهل مكة، والعفو عن بعض من أهدر دماءهم، أن دخل أهل مكة -رجالاً ونساء وأحرارًا وموالي- في دين الله طواعية واختيارًا، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجا، وتمت النعمة، ووجب الشكر( ) وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعا الرجال والنساء، والكبار والصغار, وبدء بمبايعة الرجال، فقد جلس لهم على الصفا، فأخذ عليهم البيعة على الإسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وجاء مجاشع بن مسعود بأخيه مجالد بعد يوم الفتح فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: «ذهب أهل الهجرة بما فيها» فقال: على أي شيء تبايعه؟ قال: «أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد»( ).
وقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية( ) وإذا استنفرتم فانفروا» والمراد أن الهجرة التي كانت واجبة من مكة قد انتهت بفتح مكة، فقد عز الإسلام، وثبت أركانه ودعائمه، ودخل الناس فيه أفواجا، أما الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو من بلد لا يقدر أن يقيم فيه دينه ويظهر شعائره, إلى بلد يتمكن فيه من ذلك, فهي باقية إلى يوم القيامة، ولكن هذه دون تلك، فقد تكون واجبة، وقد تكون غير واجبة، كما أن الجهاد والإنفاق في سبيل الله مشروع وباقٍ إلى يوم القيامة، ولكنه ليس كالإنفاق ولا الجهاد قبل فتح مكة, قال عز شأنه( ): ( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [الحديد: 10].
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة، على ألا يشركن بالله شيئا, ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف، ولما قال النبي: «ولا يسرقن» قالت هند: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بنيَّ فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف», ولما قال: «ولا يزنين» قالت هند: وهل تزني الحرة؟ ولما عرفها رسول الله قال لها: «وإنك لهند بنت عتبة؟» قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك.
وقد بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مصافحة، فقد كان لا يصافح النساء، ولا يمس يد امرأة إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لا والله، ما مست يد رسول الله يد امرأة قط) وفي رواية: ما كان يبايعهن إلا كلاما ويقول: «إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة»( ).
رابعًا: بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعيًا إلى الإسلام، وكان ذلك في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة( ) قبل حنين, ومعه جنود من بني سليم ومدلج والأنصار والمهاجرين, كان تعدادهم حوالي ثلاثمائة وخمسين رجلاً، فلما رأى بنو جذيمة الجيش بقيادة خالد أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، فقام رجل منهم يسمى جحدرا فقال: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدًا. فلم يزالوا به حتى وضع سلاحه، فلما وُضع السلاح أمر بهم خالد فكتفوا، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ فيهم أسرا وقتلا، فأنكر عليه بعض أصحابه ذلك، ثم دفع الأسرى إلى من كان معه، حتى إذا أصبح يومًا أمر خالد أن يقتل كل واحد أسيره، فامتثل البعض، وامتنع عبد الله بن عمر وامتنع معه آخرون من قتل أسراهم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه، فغضب ورفع يديه إلى السماء قائلا: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»( ).
ودار كلام بين خالد وعبد الرحمن بن عوف حول هذا الموضوع حتى كان بينهما شر، فقد خشي ابن عوف أن يكون ما صدر عن خالد ثأرا لعمه الفاكه بن المغيرة الذي قتلته جذيمة في الجاهلية، ولعل هذا الذي وقع بينهما هو ما أشار إليه الحديث المروي عند مسلم( ) وغيره: كان بين ابن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبَّه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»( )، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فودى لهم قتلاهم وزادهم فيها تطييبًا لنفوسهم وبراءة من دمائهم( ), وبهذا التصرف النبوي الحكيم واسى النبي صلى الله عليه وسلم بني جذيمة، وأزال ما في نفوسهم من أسى وحزن( ) وكان قتل خالد لبني جذيمة تأولا منه واجتهادًا خاطئًا, وذلك بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه على فعله( ).
خامسًا: هدم بيوت الأوثان:
بعد أن طهر البيت الحرام من الأوثان التي كانت فيه، كان لا بد من هدم البيوت التي أقيمت للأوثان, فكانت معالم للجاهلية ردحًا طويلاً من الزمن( ). فكانت سرايا رسول الله تترى لتطهير الجزيرة منها:
1- سرية خالد بن الوليد إلى العزى:
توجهت سرية قوتها ثلاثون فارسًا بقيادة خالد بن الوليد إلى الطاغوت الأعظم منزلة ومكانة عند قريش وسائر العرب (العزى) لإزالته من الوجود نهائيًا, وعندما وصلت السرية إلى العزى بمنطقة نخلة قام إليها خالد فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليه( ) وهو يردد: كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك( ), ثم رجع خالد وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم تقريره بإنجاز المهمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استدرك على قائد السرية وقال له: «هل رأيت شيئًا؟» قال: لا( ) فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئا»( ) فرجع خالد وهو مغيظ حنق على عدم إنهاء مهمته على الوجه المطلوب، فلما وصل إليها ونظرت السدنة إليه عرفوا أنه جاء هذه المرة ليكمل ما فاته في المرة السابقة, فهربوا إلى الجبل وهم يصيحون: يا عزى خبليه، يا عزى عوريه, فأتاه خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراث على رأسها، فتقدم إليها خالد بشجاعته المعروفة وضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: «تلك هي العزى»( ).
2- سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة:
مناة اسم صنم وكانت على ساحل البحر الأحمر مما يلي قديدا( ) في منطقة تعرف بالمشلل( ), وكانت للأوس والخزرج وغسان ومن دان بدينهم يعبدونها ويعظمونها في الجاهلية ويهلون منها للحج، وقد بلغ من تعظيمهم إياها أنهم كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة تحرجا وتعظيما لها حيث كان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة( ). ولم تزل هذه عادتهم حتى أسلموا، فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية( ) قال تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) [البقرة: 158].
وقد كان أول من نصبها لهم مؤسس الشرك في الجزيرة العربية ومبتدع الأوثان محرف الحنفية دين إبراهيم عليه السلام, عمرو بن لحي الخزاعي( ), فلما فتح الله على المسلمين مكة بعث رسول الله إلى مناة رجلا من أهلها سابقا الذين كانوا يعظمونها في الجاهلية وهو سعد بن زيد الأشهلي على رأس سرية قوتها عشرون فارسًا, وكان واجب السرية هو إزالة مناة من الوجود نهائيا( ).
انطلق سعد بن زيد ومن معه في مسير اقترابي سريع لإنجاز المهمة المحددة حتى وصل إليها, فقابله سادنها متسائلا: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها( ). فصاح بها السادن صيحة الواثق: مناة دونك بعض عصاتك( ) ولكن صيحته ذهبت أدراج الرياح، فلم يأبه سعد بكل ذلك وضربها ضربة قاتلة قضت عليها، ثم أقبل مع أصحابه على الصنم فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئًا، وانصرف راجعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
3- سرية عمرو بن العاص إلى سواع:
قال تعالى مخبرا عن قوم نوح: ( وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) [نوح: 23].
وسواع المذكور ضمن هذه الأصنام: هو اسم صنم كان لقوم نوح عليه السلام, ثم صار بعد ذلك لقبيلة هذيل المضرية( ) وظل هذا الوثن منصوبًا تعبده هذيل وتعظمه حتى إنهم كانوا يحجون إليه( ) حتى فتحت مكة ودخلت هذيل فيمن دخل في دين الله أفواجا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عمرو بن العاص لتحطيم سواع، ويحدثنا قائد السرية عن مهمته، فيقول: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لم؟ قال: تمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك! هل يسمع أو يبصر؟! قال: فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا شيئًا, ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمتُ لله( ).
ونستفيد من حركة السرايا التي أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم للقضاء على الأصنام والأوثان أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة ألبتة.
وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركا عندها وبها( ).
* * *