وكان صلى الله عليه وسلم قد بعث عباد بن بشر في سرية استطلاعية يتلقط أخبار العدو, ويستطلع إن كان هناك كمائن، فلقي في الطريق عينًا لليهود من أشجع فقال: من أنت؟ قال: باغٍ ابتغى أبعرة ضلت لي، أنا على إثرها، قال عباد: ألك علم بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود؟ قال: نعم، كان كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم وجعلوا لهم ثمر خيبر سنة، فجاءوا معدين مؤيدين بالكراع والسلاح يقودهم عتبة بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم، وفيهم عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاح وطعام كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، وماء وأنى يشربون في حصونهم، ما أرى لأحد بهم طاقة، فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات، وقال: ما أنت إلا عين لهم، اصدقني وإلا ضربت عنقك. فقال الأعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون، وجلون لما صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود، وقال لي
كنانة: اذهب معترضًا للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك واحزرهم لنا، وادن منهم كالسائل لهم ما تقوى به، ثم ألق إليهم كثرة عددنا ومادتنا, فإنهم لن يدعوا سؤلك، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم( ).
وعندما وصل جيش المسلمين إلى مشارف خيبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قفوا. ثم قال: «اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها، وشر ما فيها»، اقدموا باسم الله، وكان يقولها لكل قرية دخلها( ).
ولما أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم الليل أمر الجيش بالنوم على مشارف خيبر، ثم استيقظوا مبكرين، وضربوا خيامهم ومعسكرهم بوادي الرجيع، وهو وادي يقع بين خيبر وغطفان، حتى يقطعوا المدد عن يهود خيبر من قبيلة غطفان( ).
ولما أصبح الصبح خرجت اليهود بمساحيهم( ) ومكاتلهم( ), فلما رأوا جيش المسلمين قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين»( ).
ثالثًا: وصف تساقط حصون خيبر:
هرب اليهود إلى حصونهم وحاصرهم المسلمون، وأخذوا في فتح حصونهم واحدًا تلو الآخر، وكان أول ما سقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة, وأبى النزار بمنطقة الشق، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر، ثم حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة، وهو حصن ابن أبي الحقيق، ثم أسقطوا حصني منطقة الوطيح والسلالم( ).
وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند فتح بعض هذه الحصون، منها حصن ناعم الذي استُشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري، حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن( ), والذي استغرق فتحه عشرة أيام( ), فقد حمل راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق، ولم يفتح الله عليه، وعندما جهد الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيدفع اللواء غدًا إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له، فطابت نفوس المسلمين، فلما صلى فجر اليوم الثالث دعا علي بن أبي طالب ودفع إليه اللواء فحمله فتم فتح الحصن على يديه( )، وكان علي يشتكي من رمد في عينيه عندما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ( )، ولقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم عليًّا بأن يدعو اليهود إلى الإسلام قبل أن يداهمهم، وقال له: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن تكون لك حمر النعم»( ) وعندما سأله علي: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منكم دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله»( ).
وعندما حاصر المسلمون هذا الحصن برز لهم سيده وبطلهم مرحب وكان سببًا في استشهاد عامر بن الأكوع، ثم بارزه علي فقتله( ), مما أثر سلبيًّا في معنويات اليهود ومن ثم هزيمتهم( ).
ووردت مجموعة من روايات تخبر بأن عليًّا تترس بباب عظيم كان عند حصن ناعم بعد أن أسقط يهودي ترسه من يده، وكلها روايات ضعيفة( ), وعدم الاعتماد عليها لا ينفي قوة علي وشجاعته، فيكفيه ما ثبت في ذلك وهو كثير( ).
توجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ بعد فتح حصن ناعم، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسنًا حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع، يوم كانوا في ضائقة من قلة الطعام، ثم توجهوا بعده إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود، فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه، فاضطروهم إلى النزول للقتال، فهزموهم بعد ثلاثة أيام، وبذلك تمت السيطرة على آخر حصون منطقة النطاة التي كان فيها أشد اليهود، ثم توجهوا إلى حصون منطقة الشق وبدءوا بحصن أبي فاقتحموه، وأفلت بعض مقاتلته إلى حصن نزار, وتوجه إليهم المسلمون فحاصروهم ثم افتتحوا الحصن، وفر بقية أهل الشق من حصونهم وتجمعوا في حصن القموص المنيع وحصن الوطيح وحصن السلالم, فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يومًا حتى طلبوا الصلح( ).
وهكذا فتحت خيبر عنوة( ) استنادًا إلى النظر في مجريات الأحداث التي سقناها, وما روى البخاري( ) ومسلم( )، وأبو داود( ) من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر وافتتحها عنوة( ).
وبذلك سقطت سائر خيبر بيد المسلمين، وسارع أهل فدك في شمالي خيبر إلى طلب الصلح، وأن يسيرهم ويحقن دماءهم، وبذلوا له الأموال فوافق على طلبهم( ), فكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وحاصر المسلمون وادي القرى، وهي مجموعة قرى بين خيبر وتيماء ليالي( ), ثم استسلمت, فغنم المسلمون أموالا كثيرة وتركوا الأرض والنخل بيد اليهود وعاملهم عليها مثل خيبر وصالحت تيماء على مثل صلح خيبر ووادي القرى( ). وبذلك تساقطت سائر الحصون اليهودية أمام قوات المسلمين وقد بلغ قتلى اليهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعين رجلا( ), وسبيت النساء والذراري منهن صفية بنت حيي بن أخطب فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها( ).
واستشهد من المسلمين عشرون رجلا فيما ذكر ابن إسحاق( ), وخمسة عشر فيما ذكر الواقدي( ).
رابعًا: الأعرابي الشهيد، والراعي الأسود، وبطل إلى النار:
1- الأعرابي الشهيد: جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به، واتبعه، فقال: أهاجر معك؟ فأوصى به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر، غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فقسمه، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «قسم قسمته لك» قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمي هاهنا، وأشار إلى حلقه، بسهم، فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، ثم نهض إلى قتال العدو، فأُتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مقتول، فقال: «أهو هو؟» قالوا: نعم. قال: «صدق الله فصدقه». فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه، فصلى عليه، وكان من دعائه له: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك، قُتل شهيدًا، وأنا عليه شهيد»( ).
2- الراعي الأسود: وجاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر، كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم: ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي، فوقع في نفسه ذكر النبي، فأقبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا تقول؟ وما تدعو إليه؟ قال: «أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وألا تعبد إلا الله» قال العبد: فما لي إن شهدت وآمنت بالله عز وجل، قال: «لك الجنة إن مت على ذلك».
فأسلم ثم قال: يا نبي الله, إن هذه الغنم عندي أمانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرجها من عندك وارمها بـ (الحصباء) فإن الله سيؤدي عنك أمانتك» ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها، فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فوعظهم وحضهم على الجهاد, فلما التقى المسلمون واليهود قتل فيمن قتل العبد الأسود واحتمله المسلمون إلى معسكرهم فأدخل في الفسطاط فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط، ثم أقبل على أصحابه، وقال: «لقد أكرم الله هذا العبد، وساقه إلى خيبر، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين، ولم يصل لله سجدة قط»( ).
3- بطل لكنه إلى النار: كان في جيش المسلمين بخيبر رجل لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة( ) إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه من أهل النار» فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان من أهل النار؟ فقال رجل: والله لا يموت على هذه الحال أبدًا، فاتبعه حتى جرح، فاشتدت جراحته واستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فجاء رجل إلى رسول الله فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: «وما ذاك» فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة»( ).
خامسًا: قدوم جعفر بن أبي طالب ومن معه من الحبشة:
قدم جعفر بن أبي طالب وصحبه من مهاجري الحبشة على رسول الله يوم فتح خيبر، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه والتزمه وقال: «ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر»، وكان صلى الله عليه وسلم قد أرسل في طلبهم من النجاشي، عمرو بن أمية الضمري، فحملهم في سفينتين ووافق قدومهم عليه يوم فتح خيبر، وقد رافق جعفر في قدومه أبو موسى الأشعري ومن كان بصحبته من الأشعريين( ), فعن أبي موسى الأشعري قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهم أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال: في بضع, وإما قال في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي، فركبنا السفينة, فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا جميعًا, فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر( ).
لقد مكث جعفر وإخوانه في الحبشة بضعة عشر عامًا، نزل خلالها قرآن كثير، ودارت معارك شتى مع الكفار، وتقلب المسلمون قبل الهجرة العامة وبعدها في أطوار متباينة، حتى ظن البعض أن مهاجري الحبشة -وقد فاتهم هذا كله- أقل قدرًا من غيرهم( ).
فعن أبي موسى: كان أناس يقولون لنا سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة زوج النبي زائرة -وكانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر- فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت أسماء: ابنة عميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله, كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله، وايم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاءت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان»( ). فأخذت أسماء هذا الوسام ووزعته على جميع أعضاء الوفد حيث كانوا( ), كما قالت: يأتون أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في نفوسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ( ). وقد أشركهم النبي صلى الله عليه وسلم في مغانم خيبر بعد أن استأذن من الصحابة رضي الله عنهم الذين شاركوا في فتحها( ).
سادسًا: تقسيم الغنائم:
1- كانت غزوة خيبر من أكثر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم غنيمة، من حيث الأراضي والنخيل والثياب والأطعمة وغير ذلك، ومن خلال وصف كتب السيرة نلاحظ أن الغنائم تتكون من:
أ- الطعام: فقد غنم المسلمون كثيرًا من الأطعمة من حصون خيبر، فقد وجدوا فيها الشحم والزيت والعسل والسمن، وغير ذلك, فأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكل من تلك الأطعمة، ولم يخمسها( ).
ب- الثياب والأثاث والإبل والبقر والغنم، لقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسها ووضعه فيما وضعه الله فيه، ووزع أربعة أخماسها على المحاربين.
ج- السبي: لقد سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا من نساء اليهود، ووزع السبي على المسلمين، فهو غنيمة ويأخذ حكم الغنيمة.
د- أما الأراضي والنخيل فقد قسمها النبي إلى ستة وثلاثين سهمًا، وجمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، ووزع النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه، وما ينزل به من أمور المسلمين( ).
هـ- وكان من بين ما غنم المسلمون من يهود خيبر عدة صحف من التوراة فطلب اليهود ردَّها، فأمر بتسليمها إليهم، ولم يصنع صلى الله عليه وسلم ما صنع الرومان حينما فتحوا أورشليم وأحرقوا الكتب المقدسة، وداسوها بأرجلهم، ولا ما صنع النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة( ).
وقد أبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر فيها على أن يعملوا في زراعتها وينفقوا عليها من أموالهم, ولهم نصف ثمارها، على أن للمسلمين حق إخراجهم منها متى أرادوا، وكان اليهود قد بادروا بعرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم فوافق على ذلك بعد أن هم بإخراجهم منها( ).
وقد اشترط عليهم أن يجليهم عنها متى شاء، وهنا تظهر براعة سياسة جديدة في عقد الشروط، فإن بقاء اليهود في الأرض يفلحونها يوفر للمسلمين الجنود المجاهدين في سبيل الله، ومن جهة أخرى فإن اليهود هم أصحاب الأرض وهم أدرى بفلاحتها من غيرهم، فبقاؤهم فيها يعطي ثمرة أكثر وأجود وبخاصة أنهم لن يأخذوا أجرًا، ولكنهم سيأخذون نصف ما يخرج من الأرض قل أو كثر.
وقد ضمن الرسول -بشرط إجلائهم متى شاء المسلمون- إخضاعهم وكسر شوكتهم؛ لأنهم يعلمون إذا فعلوا شيئًا يضر بالمسلمين سيطردونهم منها، ولا يعودون إليها أبدًا.
وقد حدث ذلك فعلا في عهد سيدنا عمر بن الخطاب حيث اعتدوا على عبد الله ابن عمر ففدعوا يديه من المرفقين، وكانوا قبل ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اعتدوا على عبد الله بن سهل فقتلوه, فلما تحقق عمر من غدرهم وخيانتهم أمر بإجلائهم( ). وحاول يهود خيبر أن يخفوا الفضة والذهب وغيبوا مسكًا( ) لحيي بن أخطب، وكان قد قتل مع بني قريظة، وكان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعية عم حيي بن أخطب: أين مسك حيي بن أخطب؟ قال: أذهبته الحروب والنفقات( ).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير بن العوام، فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك دخل خربة، فقال عمه: قد رأيت حييًا يطوف في خربة هاهنا, فذهبوا فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة( ). وبعد الاتفاق الذي تم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهود خيبر على إصلاح الأرض جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه( ), وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض الناس إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض( ).
لقد أصبحت خيبر ملكًا للمسلمين وصارت موردًا مهمًّا لهم, قال ابن عمر : ما شبعنا حتى فتحت خيبر( )، وقد تحسن الوضع الاقتصادي بعد خيبر, ورد المهاجرون المنائح التي أعطاهم إياها الأنصار( ) من النخل.
سابعًا زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية بنت حيي بن أخطب:
لما فتح المسلمون القموص -حصن بني أبي الحقيق- كانت صفية في السبي فأعطاها دحية الكلبي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله, أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قومها، وهي ما تصلح إلا لك، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم ما أشار به الرجل، وقال لدحية، خذ جارية من السبي غيرها( ), ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها وجعل عتقها صداقها( )، ثم تزوجها بعد أن طهرت من حيضتها( ), وبعد أن أسلمت.
ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر حتى طهرت صفية من حيضها، فحملها وراءه فلما صار إلى منزل على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها, فأبت عليه, فوجد في نفسه، فلما كان بالصهباء نزل بها هناك فمشطتها أم سليم، وعطرتها، وزفتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبنى بها، فسألها: «ما حملك على الامتناع من النزول أولا» فقالت: خشيت عليك من قرب اليهود، فعظمت في نفسه، ومكث رسول الله بالصهباء ثلاثة أيام، وأولم عليها ودعا المسلمين،
وما كان فيها من لحم وإنما التمر والأقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ له خلفه ومد عليها الحجاب، فأيقنوا أنها إحدى أمهات المؤمنين( ).
وقد كانت أم المؤمنين صفية بنت حيي قد رأت رؤية، فقد روى البيهقي -رحمه الله- بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث طويل قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: «يا صفية ما هذه الخضرة؟» فقالت: كان رأسي في حجر ابن حقيق، وأنا نائمة، فرأيت كأن قمرًا وقع في حجري، فأخبرته بذلك فلطمني، وقال: تمنين ملك يثرب( ).
وهكذا صدق الله رؤيا صفية رضي الله عنها، وأكرمها بالزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتقها من النار، وجعلها أمًّا للمؤمنين، وزوجًا في الجنة لخاتم الأنبياء والمرسلين( )، وقد أكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية الإكرام, وكان يجلس عند بعيره فيضع ركبته لتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب، وقد بلغ من أدبها أنها كانت تأبى أن تضع رجلها على ركبته، فكانت تضع ركبتها على ركبته وتركب( ).
وهذه صفية رضي الله عنها تحدثنا عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: ما رأيت أحدًا قط أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأيته ركب بي في خيبر، وأنا على عجر ناقته ليلاً، فجعلت أنعس، فتضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيمسني بيده، ويقول: «يا هذه مهلاً» ( ). وعن صفية رضي الله عنها أنها بلغها عن عائشة وحفصة أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية، نحن أزواجه وبنات عمه، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «ألا قلتِ: وكيف تكونان خير مني وزوجي محمد وأبي هارون، وعمي موسى»( ).
لقد تأثرت صفية بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصبح صلى الله عليه وسلم أحب إليها من أبيها وزوجها والناس أجمعين، بل أصبح أحب إليها من نفسها، تفديه بكل ما تملك حتى نفسها، وإذا ألم به مرض تمنت أن يكون فيها، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمًا معافى، فقد أخرج ابن سعد -رحمه الله- بإسناد حسن عن زيد بن أسلم قال: اجتمع نساؤه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية رضي الله عنها: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي، فغمز بها أزواجه، فأبصرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مضمضن», فقلن: من أي شيء فقال: «من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة»( ).
ومما له صلة بزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي، حراسة أبي أيوب الأنصاري لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن دخل بصفية، فعن ابن إسحاق أنه قال: ولما أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بخيبر، أو ببعض الطريق.. فبات بها رسول الله في قبة له، وبات أبو أيوب خالد بن زيد أخو بني النجار متوشحًا سيفه، يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطيف بالقبة، حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رأى مكانه قال: «ما لك يا أبا أيوب؟» قال: يا رسول الله، خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك( )، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمله الذي ينبئ على غاية الحب، والإيمان، وقال: «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحرسني»( ).
وكان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية فيه حكمة عظيمة, فهو لم يرد بزواجه منها قضاء شهوة، أو إشباعًا لغريزة, كما يزعم الأفاكون، وإنما أراد إعزازها وتكريمها، وصيانتها من أن تفترش لرجل لا يعرف لها شرفها ونسبها في قومها، وهذا إلى ما فيه من العزاء لها، قد قتل أبوها من قبل, وزوجها وكثير من قومها، ولم يكن هناك أجمل مما صنعه الرسول معها، كما أن فيه رباط المصاهرة بين النبي واليهود عسى أن يكون هذا ما يخفف من عدائهم للإسلام والانضواء تحت لوائه والحد من مكرهم وسعيهم بالفساد( )، وكانت أم المؤمنين صفية عاقلة وحليمة، وصادقة, يروى أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود، فبعث إليها فسألها عن ذلك، فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحمًا فأنا أصلها، فقبل منها، ثم قالت للجارية: ما حملك على هذا؟ قالت: الشيطان، فقالت لها: اذهبي فأنت حرة.
وكانت وفاتها في رمضان سنة خمسين للهجرة في زمن معاوية، وقيل سنة اثنتين وخمسين رضي الله عنها وأرضاها( ).
ثامنًَا: محاولة أثيمة لليهود.. الشاة المسمومة:
قال أبو هريرة : لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود» فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني سائلكم عن شيء فهل أنت صادقي عنه؟». فقالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أبوكم؟». قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبتم بل أبوكم فلان». فقالوا: صدقت وبررت. فقال: «هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أهل النار؟». فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفوننا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخسؤوا فيها والله لا نخلفكم فيها أبدًا». ثم قال لهم: «فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟». قالوا: نعم. فقال: «هل جعلتم في الشاة سمًّا». فقالوا: نعم. فقال: «ما حملكم على ذلك؟». فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح منك، وإن كنت نبيًّا لم يضرك( ).
قال صاحب بلوغ الأماني عن الشاة المسمومة: أهدتها إليه زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم، وكانت سألت أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل: الذراع، فأكثرت فيها من السم، فلما تناول الذراع لاك منها مضغة، ولم يسغها، وأكل منها معه بشر بن البراء فأساغ لقمة ومات منها( ).
وفي مغازي عروة: فتناول الذراع فانتهش منها، وتناول بشر عظمًا آخر، فانتهش منه، فلما أرغم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرغم بشر ما في فيه، فقال رسول الله: ارفعوا أيديكم، فإن كتف الشاة تخبرني أني قد بغيت فيها، فقال بشر بن البراء: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت، ولم يمنعني أن ألفظها إلا أني كرهت أن أنغص طعامك، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا أكون رغمتها وفيها بغي( ).
وقال ابن القيم: وجيء بالمرأة إلى رسول الله فقالت: أردت قتلك، فقال: «ما كان الله ليسلطك علي» قالوا: ألا تقتلها؟ قال: «لا» ولم يتعرض لها، ولم يعاقبها، واحتجم على الكاهل، وأمر من أكل منها فاحتجم، فمات بعضهم( ).
وقد اختلف في قتل المرأة والصحيح أنه لما مات بشر قتلها( ), ولقد كان السم الذي وضعته اليهودية قويًّا جدًّا إذ مات بشر بن البراء فورًا، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاوده ألم السم حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها( ). وقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرض موته الذي مات فيه: «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري( ) من ذلك السم»( ).
تاسعًا: الحجاج بن علاط السلمي وإرجاع أمواله من مكة:
عن أنس بن مالك قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وإني أريد أن أكاتبهم, فأنا في حل إن أنا نلت منك, وقلت شيئًا؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما يشاء فأتى امرأته حين قدم، فقال: اجمعي لي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا، أو أصيبت أموالهم، قال: ففشا ذلك في مكة فانقمع المسلمون، وأظهر المشركون فرحًا وسرورًا، قال: وبلغ الخبر العباس فقعد، وجعل لا يستطيع أن يقوم.
قال معمر: فأخبرني عثمان الجزري عن مقسم قال: فأخذ ابنًا له يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له، قثم، فاستلقى فوضعه على صدره وهو يقول:
شبيه ذي الأنف الأشم
حبي قثم، حبي قثم
برغم أنف من رغم
نبي رب ذي النعم
قال ثابت بن أنس: ثم أرسل غلامًا له إلى الحجاج فقال: ويلك ما جئت به؟ وماذا تقول؟ فما وعد الله خير مما جئت به، قال: فقال الحجاج بن علاط لغلامه: اقرأ على أبي الفضل السلام، وقل له: فيخل لي في بعض بيوته لآتيه، فإن الخبر على ما يسره، فجاءه غلامه، فلما بلغ باب الدار قال: أبشر يا أبا الفضل، قال: فوثب العباس فرحًا، حتى قبل بين عينيه، فأخبره بما قال الحجاج، فأعتقه، قال: ثم جاء الحجاج فأخبره أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد افتتح خيبر، وغنم أموالهم، وجرت سهام الله في أموالهم، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي، فأخذها لنفسه وخيرها أن يعتقها، وتكون زوجته( ), ولكني جئت لمالي، وإني استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لي، فأخف عليَّ يا أبا الفضل ثلاثًا، ثم اذكر ما شئت( ), فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي ومتاع فجمعه، فدفعته إليه, ثم انشمر به، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك؟ فأخبرته أنه ذهب يوم كذا وكذا، وقالت: لا يخزيك الله يا أبا الفضل، لقد شق علينا الذي بلغك، قال: أجل، لا يخزيني الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا، فتح الله خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرت فيها سهام الله، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي لنفسه، فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي به، قالت: أظنك والله صادقًا، قال فإني صادق، الأمر على ما أخبرتك, فقال: ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش، وهم يقولون إذ مر بهم: لا يصيبك إلا خيرًا يا أبا الفضل، قال لهم: لم يصبني إلا خير بحمد الله، قد أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر قد فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وجرت فيها سهام الله، واصطفى صفية لنفسه، وقد سألني أن أخفي عليه ثلاثًا، وإنما جاء ليأخذ ماله، وما كان له من شيء هاهنا، ثم يذهب, قال: فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون ومن كان دخل بيته مكتئبًا حتى أتوا العباس، فأخبرهم الخبر, وسر المسلمون ورد الله تبارك وتعالى ما كان من كآبة أو غيظ أو حزن على المشركين( ). وفي هذا الخبر فقه غزير منه: جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين، حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، بمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب، ولاسيما تكميل الفرح والسرور، وزيادة الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب، فكان الكذب سببًا في حصول هذه المصلحة الراجحة.
عاشرًا: بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالغزوة:
وردت في غزوة خيبر أحكام شرعية كثيرة منها:
1- تحريم أكل لحوم الحمر الأنسية: عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية( ).
2- حرمة وطء السبايا الحوامل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره» ( ).
3- حرمة وطء السبايا غير الحوامل قبل استبراء الرحم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها» ( ).
والاستبراء إنما يكون بأن تطهر من حيضة واحدة فقط، ولا تجب عليها العدة وإن كانت متزوجة من كافر سواء مات أو بقي حيًّا؛ لأن العدة وفاء الزوج الميت وحداد عليه، ولا يحد على الكافر كما علمت( ).
4- حرمة ربا الفضل: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل تمر خيبر هكذا؟» فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، فقال: «لا تفعل بِِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا»( ). فالتفاضل مع اتحاد الجنس هو ربا الفضل، إذ اشترى صاعًا بأكثر من صاع، فالزيادة هنا هي الربا، وهذا محرم, كما رأيت إذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأرشد إلى الحل السليم بأن يبيع ما لديه من تمر ثم يشتري بما لديه من نقود ما يشتهي من تمر؛ لأن الحاجة قد تدفع صاحبها إلى قبول الربا( ).
5- حرمة بيع الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين: روى عن عبادة بن الصامت أنه قال: نهانا رسول الله يوم خيبر أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين، وقال «ابتاعوا تبر الذهب بالورق والعين، وتبر الفضة بالذهب والعين»( ). والمراد من الحديث: أن يباع الذهب بالذهب مثلاً بمثل والفضة بالفضة مثلاً بمثل، بلا زيادة ولا نقص، وعندما يقابل الذهب بالفضة لا تشترط المماثلة، كما هو معلوم وثابت في الصحاح( ).
6- مشروعية المساقاة والمزارعة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر لليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها( ).
وقد تساءل بعض الباحثين: لِمَ جاءت أحكام هذه البيوع في خيبر وما الحكمة من ذلك؟ وأجاب الشيخ محمد أبو زهرة على هذا فقال: إن فتح خيبر كان فتحًا جديدًا بالنسبة للعلاقات المالية التي يجري في ظلها التبادل المالي، فكانت فيها شرعية المزارعة والمساقاة ولم تكن تجري كثيرًا في يثرب( ).
7- حل أكل لحوم الخيل: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر، ورخص في الخيل( ).
8- تحريم المتعة: عن علي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأنسية( ).
9- مشاركة المرأة في غزوة خيبر: روت أمية بنت أبي الصلت عن امرأة من بني غفار قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار فقلن: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا -وهو السير إلى خيبر- فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا, فقال: على بركة الله، قالت: فخرجنا معه، قالت: فوالله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح ونزلت عن حقيبة رحله، قالت: وإذا بها دم مني وكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: «ما لك؟ لعلك نفست؟» قالت: قلت: نعم؟ قال: «فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك» قالت: فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفيء، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدًا( ), وكانت في عنقها حتى ماتت، ثم أوصت أن تدفن معها، قالت: وكانت لا تطهر من حيضها، إلا جعلت في طهرها ملحًا، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت( ). وهي صورة حية أمام كل فتاة مسلمة، تحرص على أن تشارك في أجر الجهاد مع المسلمين( ).
وهكذا كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تعليمًا وتربية للأمة في السلم والحرب على معاني العقيدة وحقيقة العبادة، وهذا غيض من فيض وجزء من كل.
هذا وقد أحدث فتح خيبر وفدك ووادي القرى وتيماء دويًّا هائلاً في الجزيرة العربية بين مختلف القبائل، وقد أصيبت قريش بالغيظ والكآبة إذ لم تكن تتوقع ذلك، وهي تعلم مدى حصانة قلاع يهود خيبر، وكثرة مقاتليهم ووفرة سلاحهم ومؤونتهم ومتاعهم( )، أما القبائل العربية الأخرى المناصرة لقريش فقد أدهشها خبر هزيمة يهود خيبر وخذلها انتصار المسلمين الساحق؛ ولذلك فإنها جنحت إلى مسالمة المسلمين وموادعتهم بعد أن أدركت عدم جدوى استمرارها في عدائهم، مما فتح الباب واسعًا لنشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، بعد أن تعززت مكانة المسلمين في أعين أعدائهم إلى جانب ما تحقق له من خير وتعزيز لوضعهم الاقتصادي( ).
واستمرت حركة السرايا بعد خيبر، وكانت كثيرة، وأمر عليها صلى الله عليه وسلم كبار الصحابة، وكان في بعضها قتال، ولم يكن في بعضها قتال( ).
* * *