الطريق الى الجنة
اخي الحبيب تقرب الى الله ليتقرب الله اليك
ادعوك للتسجيل في المنتدى وابني مستقبلك

الادارة
الطريق الى الجنة
اخي الحبيب تقرب الى الله ليتقرب الله اليك
ادعوك للتسجيل في المنتدى وابني مستقبلك

الادارة
الطريق الى الجنة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الطريق الى الجنة

منتدى اسلامي ثقافي اجتماعي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 السيرة النبوية الجزء الثاني -22

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 99
تاريخ التسجيل : 31/10/2012
العمر : 64

السيرة النبوية الجزء الثاني -22 Empty
مُساهمةموضوع: السيرة النبوية الجزء الثاني -22   السيرة النبوية الجزء الثاني -22 I_icon_minitimeالخميس نوفمبر 01, 2012 2:12 pm


المبحث الثاني
صلح الحديبية وما ترتب عليه من أحداث
أولاً: مفاوضة سهيل بن عمرو لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
لما بلغ قريشًا أمر بيعة الرضوان، وأدرك زعماؤها تصميم الرسول صلى الله عليه وسلم على القتال أوفدوا سهيل بن عمرو في نفر من رجالهم لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم ( ), ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلا قال: «لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» ( ).
كان سهيل بن عمرو أحد زعماء قريش البارزين الذين كانوا يعرفون بالحنكة السياسية والدهاء, فهو خطيب ماهر، ذو عقل راجح، ورزانة، وأصالة في الرأي.
شرع الفريقان المتفاوضان في بحث بنود الصلح، وذلك بعد رجوع عثمان بن
عفان ، وقد استعرض الفريقان النقاط التي يجب أن تتضمنها معاهدة الصلح، واستعرضا في مباحثاتهما مختلف القضايا التي كانت تشكل مثار الخلاف بينهما. هذا وقد اتفق الفريقان من حيث المبدأ على بعض النقاط، واختلفا على البعض الآخر، وقد طال البحث والجدل والأخذ والرد حول هذه البنود، وبعد المراجعات والمفاوضات تقاربت وجهات النظر بين الفريقين، وعند الشروع في وضع الصيغة النهائية للمعاهدة وكتابتها لتكون نافذة المفعول رسميًّا حدث خلاف بين الوفدين على بعض النقاط كاد أن يعثِّر سير هذه الاتفاقية, فعندما شرع النبي صلى الله عليه وسلم في إملاء صيغة المعاهدة المتفق عليها، أمر الكاتب وهو سيدنا علي بن أبي طالب، بأن يبدأ المعاهدة بكلمة: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهنا اعترض رئيس الوفد القرشي سهيل بن عمرو قائلا: لا أعرف الرحمن، اكتب (باسمك اللهم)، فضج الصحابة على هذا الاعتراض، قائلين: هو الرحمن، ولا نكتب إلا الرحمن, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تمشيًا مع سياسة الحكمة والمرونة والحِلْم، قال للكاتب: «اكتب باسمك اللهم»( ) واستمر في إملاء صيغة المعاهدة هذه، فأمر الكاتب أن يكتب «هذا ما اصطلح عليه رسول الله»، وقبل أن يكمل الجملة اعترض رئيس الوفد القرشي على كلمة رسول الله قائلا: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ اكتب اسمك واسم أبيك( ).
واعترض المسلمون على ذلك, ولكن رسول الله بحكمته وتسامحه وبُعد نظره حسم الخلاف وأمر الكاتب بأن يشطب كلمة رسول الله من الوثيقة فالتزم الصحابة الصمت والهدوء.
إن النبي صلى الله عليه وسلم وافق المشركين على ترك كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وكتابة (باسمك اللهم) بدلا عنها، وكذا وافقهم في كتابة محمد بن عبد الله وترك كتابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا وافقهم في رد من جاء منهم إلى المسلمين دون من ذهب منهم إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله (محمد بن عبد الله) هو أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك.
وأما شرط رد من جاء منهم وعدم رد من ذهب إليهم، فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم تعليل ذلك والحكمة فيه في هذا الحديث بقوله: «من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا ثم كان كما قال صلى الله عليه وسلم»( ).
وتم عقد هذه المعاهدة وكانت صياغتها من عشرة بنود جاءت على الشكل التالي:
1- باسمك اللهم.
2- هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.
3- واصطلحا على وضع الحرب على الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض.
4- على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجًّا أو معتمرًا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازًا إلى مصر أو إلى الشام، يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله.
5- على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه.
6- وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال( ).
7- وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتوثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم).
8- وأنت ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيرها.
9- وعلى أن هذا الهدي ما جئناه ومحله فلا تقدمه علينا.
10- أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين.
فمن المسلمين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف, وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سلمة، وعلي بن أبي طالب كاتب المعاهدة رضي الله عنهم أجمعين.
ومن المشركين: مكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو( ).
تعتبر هذه المعاهدة أساسًا للمعاهدات الإسلامية ونموذجًا فريدًا للمعاهدات الدولية، بما سبقها من مفاوضات، وما حوته من شروط، وما تمثل بها من خلق النبي صلى الله عليه وسلم في النزول عند رضا الطرف الآخر، وفي كيفية الصياغة والالتزام، هذه المعاهدة سبقها مفاوضات من قبل المشركين والمسلمين، وفشل بعض الممثلين في الوصول إلى اتفاق، ودارت مشاورات شتى من الجانبين قبل الوصول إليه، حتى توصل الفريقان إلى اتفاق عن طريق ممثل المشركين (سهيل بن عمرو) ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ملأ المسلمين.
عقدت هذه المعاهدة في الوقت الذي كان فيه المسلمون بمركز القوة لا الضعف، وكان باستطاعتهم ألا يقبلوا شروطها التي اغتاظ منها كثير من الصحابة، ولكن ما كان لهم أن يخرجوا عن طوع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وقد تمادى رسول قريش على رسول الله في مفاوضته, وكان فردًا بين جيش المسلمين، فلم ينله أذى، ولم يتمادَ عليه المسلمون بالقتل (لأن السفراء لا تقتل) ولكن رسول الله يرضيه، ويسعه بالحلم واللين، حتى يصل إلى الغاية التي ينشدها الإسلام، وهي حقن الدماء، وإحلال السلام، ورجاء أن يعقل القوم الحق، وأن يراجعوا المواقف، ويسمعوا كلام الله( ), وتدخل الدعوة الإسلامية طورًا جديدًا بصور أخرى في الانتشار والاتصال بالناس عندما نتأمل نصوص المعاهدة التي تمت في الحديبية فإننا نأخذ منها الآتي:
1- إن ديباجة المعاهدات الإسلامية كانت تبدأ باسم الله، أو باسمك اللهم، والقانون الدولي في صياغة المعاهدات يقول: (تبدأ كتابة المعاهدات بديباجة يتفق عليها طرفا التعاقد).
والذي يجب أن نلاحظه أن المعاهدات في الإسلام تستند إلى الله الذي تبدأ باسمه سبحانه، حيث هو الرقيب والحسيب على ما في النوايا والقلوب، واسم الله مقدس في كل قلب يؤمن به، حتى أولئك الذين فسدت عقائدهم، فإنهم لا ينكرون الله، ولكنهم أفسدوا تصورهم لذات الله، وقد جرت أعراف بعض الذين يستهوون قلوب العامة بالشعارات الجوفاء أن يقولوا بدل اسم الله: باسم الشعب، أو باسم الأمة، باعتبار قدسية ما يبدأون به كما يزعمون، ولكن الذي يؤمن بالله لا يعدل عن قدسية الله في اعتقاده، ولذلك كانت البداية (باسمك اللهم).
2- ذكر في المعاهدة طرفا التعاقد بعد (الديباجة) كما يسميها القانون الدولي، وهذا ما عليه القانون الدولي العام من أنه يذكر بعد الديباجة أسماء الممثلين أو الدول التي هي أطراف في عقد المعاهدة.
3- بواعث المعاهدة، فقد جاء في بداية هذه المعاهدة ذكر الصلح لأجل وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس, ويكف بعضهم عن بعض، وهذا ما عليه القانون الدولي العام كذلك.
4- الدخول في صلب المعاهدة وشروطها، حيث ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المعاهدة الشروط المتفق عليها بين الطرفين، وهذا ما عليه القانون الدولي العام.
5- في معاهدة صلح الحديبية جواز ابتداء الإمام (رئيس الدولة الإسلامية) بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم( ).
6- إن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائز للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما( ).
7- إن صلح الحديبية سماه الله فتحًا؛ لأن الفتح في اللغة هو فتح المغلق, والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مغلقًا ففتحه الله، والصلح كذلك يفتح القلوب المغلقة نحو الطرف الآخر.
لقد كانت الصورة الظاهرة في شروط الحديبية فيها ضيم للمسلمين, وهي في باطنها عز وفتح ونصر، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ما وراء المعاهدة من الفتح العظيم من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم ما في ضمن هذا المكروه
من محبوب( ).
8- إن المعاهدة قد تكون مفتوحة لمن يحب أن يدخل فيها من الأطراف أو الدول الأخرى، وهذا ما عليه القانون الدولي، حيث أجاز أن تكون المعاهدة مفتوحة لمن يحب الدخول فيها من الأطراف الأخرى، فقد دخلت خزاعة وكنانة في الصلح الذي أنهى حالة الحرب القائمة بين هاتين القبيلتين والتي امتدت سنوات عديدة( ).
9- إن المعاهدة لا بد لها من توقيع الأطراف والإشهاد عليها، وتوقيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشهاد أصحابه إنما هو بمثابة التوقيع على المعاهدة والتصديق عليها، كما هو في القانون الدولي العام.
10- إن المعاهدة يجوز أن يكون الوسيط فيها طرفًا محايدًا، أو طرفًا يقرب بين وجهات النظر كوساطة سيد الأحابيش (الحلس بن علقمة) حليف قريش الأكبر، وطلبت منه قريش أن يكون وسيطًا بينهم وبين المسلمين، وكان الحلس ذا عقل راجح وبصيرة نافذة، وكان سيدًا مطاعًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفه ويعرف فيه التأله الشديد والتعظيم للحرم.
وعندما اختارته قريش كانت تطمع في أن يكون لمركزه الممتاز بين العرب, ولما يتمتع به من تقدير لدى النبي صلى الله عليه وسلم, تأثير على الرسول وأصحابه( ).
وهذا ما يقره القانون الدولي، حيث إن المعاهدة قد تعقد بوساطة دولة أخرى ليست طرفًا في النزاع، أو أحد المبعوثين الذي لا علاقة له أو لدولته في النزاع القائم بين طرفي التعاقد.
11- إن المعاهدة تعتبر نافذة المفعول بمجرد الاتفاق على المعاهدة وشروطها، حتى ولو لم تكتب ولم يوقع عليها الطرفان، وذلك كما حدث لأبي جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده الرسول صلى الله عليه وسلم بموجب قبوله عليه السلام بالبند الخامس من المعاهدة، والذي يقول: (على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم...) فمنذ أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم التزامه بهذا الشرط أجراه ولو لم تكن المعاهدة قد كتبت بعد، ولم يوقع عليها الطرفان.
12- إن المعاهدة تكتب من نسختين، ويأخذ كل طرف نسخة طبق الأصل من المعاهدة، حيث إنه بعد أن تمت إجراءات الصلح النهائية في الحديبية أخذ كل
من الفريقين نسخة من وثيقة الصلح التاريخية، وانصرف الوفد القرشي راجعًا
إلى مكة( ).
ثانيًا: موقف أبي جندل والوفاء بالعهد:
إن من أبلغ دروس صلح الحديبية درس الوفاء بالعهد, والتقيد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التي يقطعها المسلم على نفسه، وقد ضرب رسول
الله صلى الله عليه وسلم بنفسه أعلى مثل في التاريخ القديم والحديث، لاحترام كلمة لم تكتب, واحترام كلمة تكتب كذلك, وفي الجد في عهوده، وحبه للصراحة والواقعية، وبغضه التحايل والالتواء والكيد، وذلك حينما كان يفاوض (سهيل بن عمرو) في الحديبية، حيث جاءه ابن سهيل يرسف في الأغلال، وقد فر من مشركي مكة، وكان أبوه يتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الابن ممن آمنوا بالإسلام جاء مستصرخًا بالمسلمين، وقد انفلت من أيدي المشركين, فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه، وقال: يا محمد لقد لجت القضية بيني وبينك، أي فرغنا من المناقشة قبل أن يأتيك هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فلم يغن عنه ذلك شيئًا، ورده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأبي جندل: إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهدًا، وإنا لا نغدر بهم، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء هذه المأساة التي حالت بنود معاهدة الصلح بينه وبين أن يجد مخرجًا منها لأبي جندل المسلم، طمأن أبا جندل وبشره بقرب الفرج له ولمن على شاكلته من المسلمين, وقال له وهو يواسيه: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا»( ). وفي هذه الكلمات النبوية المشرقة العظيمة دلالة ليس فوقها دلالة على مقدار حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسكه بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه وعواقبه فيما يبدو للناس( ). لقد كان درس أبي جندل امتحانًا قاسيًا ورهيبًا لهذا الوفاء بالعهد أثبت فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون نجاحًا عظيمًا في كبت عواطفهم وحبس مشاعرهم، وقد صبروا لمنظر أخيهم أبي جندل وتأثروا من ذلك المشهد عندما كان أبوه يجتذبه من تلابيبه، والدماء تنزف منه, مما زاد في إيلامهم حتى أن الكثيرين منهم أخذوا يبكون بمرارة إشفاقًا منهم على أخيهم في العقيدة، وهم ينظرون إلى أبيه المشرك وهو يسحبه بفظاظة الوثني الجلف ليعود به مرة أخرى إلى سجنه الرهيب في مكة.
وقد صبر أبو جندل واحتسب لمصابه في سبيل دينه وعقيدته, وتحقق فيه قول الله تعالى: ( ... وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )[الطلاق: 2، 3].
فلم تمر أقل من سنة حتى تمكن مع إخوانه المسلمين المستضعفين بمكة من الإفلات من سجون مكة، وأصبحوا قوة صار كفار مكة يخشونها, بعد أن انضموا إلى أبي بصير، وسيطروا على طرق قوافل المشركين الآتية من الشام( ). وسيأتي تفصيل ذلك لاحقًا بإذن الله تعالى.
ثالثًا: احترام المعارضة النزيهة:
بعد الاتفاق على معاهدة الصلح وقبل تسجيل وثائقها ظهرت بين المسلمين معارضة شديدة وقوية لهذه الاتفاقية، وخاصة في البندين اللذين يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم بموجبهما برد من جاءه من المسلمين لاجئًا، ولا تلتزم قريش برد من جاءها من المسلمين مرتدًا، والبند الذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، وقد كان أشد الناس معارضة لهذه الاتفاقية وانتقادًا لها، عمر بن الخطاب، وأسيد بن حضير سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج.
وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلنًا معارضته لهذه الاتفاقية، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست برسول الله؟ قال: «بلى» قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى» قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: «إني رسول الله ولست أعصيه»( ). وفي رواية: «أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني»( ), قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به». قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر ناصحًا الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة: الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله ولن يضيعه الله( ).
وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثرة عاد الصحابة إلى تجديد المعارضة للصلح، وذهبت مجموعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم عمر بن الخطاب لمراجعته، وإعلان معارضتهم مجددًا للصلح إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاه الله من صبر وحكمة وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصلح، وأنه في صالح المسلمين، وأنه نصر لهم( ) وأن الله سيجعل للمستضعفين من أمثال أبي جندل فرجًا ومخرجًا، وقد تحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع قاعدة احترام المعارضة النزيهة، حيث قرر ذلك بقوله وفعله، وهو -والله أعلم- إنما أراد بهذا الفعل إرشاد القادة من بعده إلى احترام المعارضة النزيهة التي تصدر من أتباعهم، وذلك بتشجيع الأتباع على إبداء الآراء السليمة التي تخدم المصلحة العامة( ).
وهذا الهدي النبوي الكريم بيًّن أن حرية الرأي مكفولة في المجتمع الإسلامي، وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقدًا لموقف حاكم من الحكام, أو خليفة من الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن والأمان دون إرهاب أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر.
ونفهم من معارضة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن المعارضة لرئيس الدولة في رأي من الآراء, وموقف من المواقف ليست جريمة تستوجب العقاب، ويغيب صاحبها في غياهب السجون( ).
رابعًا: التحلل من العمرة ومشورة أم سلمة رضي الله عنها:
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية كتابة الصلح قال لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كان بعضهم يقتل بعضًا غمًّا( ).
وقد حلق رجال يوم الحديبية, وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين»( ).
وكان في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية جَمَلٌ لأبي جهل في رأسه برة( ) من فضة, يغيظ بذلك المشركين( ).
وفي هذه الحادثة تستوقفنا أمور فيها دروس وعبر منها:
1- كان رأي أم سلمة سديدًا ومباركًا، حيث فهمت رضي الله عنها وعن الصحابة أنه وقع في أنفسهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذًا بالرخصة في حقهم، وأنه يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة، في حق نفسه، فأشارت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، فلم يبق بعد ذلك غاية تنتظر، فكان ذلك رأيًا سديدًا ومشورةً مباركةً، وفي ذلك دليل على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة ما دامت ذات فكرة صائبة ورأي سديد( ). كما أنه لا فرق في الإسلام بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة طالما أنها مشورة صائبة، وهذا عين التكريم للمرأة التي يزعم أعداء الإسلام أنه غمطها حقها وتجاهل وجودها، وهل هناك اعتراف واحترام لرأي المرأة أكثر من أن تشير على نبي مرسل ويعمل النبي صلى الله عليه وسلم بمشورتها لحل مشكلة اصطدم بها وأغضبته( ).
2- أهمية القدوة العملية، فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر وكرره ثلاث مرات, وفيهم كبار الصحابة وشيوخهم، ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة تحقق المراد، فالقدوة العملية في مثل هذه المواقف أجدى وأنفع( ).
3- حكم الإحصار في العمرة والحج: دلَّ عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من أمر الصلح، من التحلل والنحر والحلق، على أن المحصر يجوز له أن يتحلل، وذلك بأن يذبح شاة، حيث أحصر أو ما يقوم مقامها، ويحلق ثم ينوي التحلل مما كان قد أهل به، سواء كان حجًّا أو عمرة، كما دل على أن المتحلل لا يلزم بقضاء الحج أو العمرة إذا كان متطوعًا، وخالف الحنفية فرأوا أن القضاء بعد المباشرة واجب، بدليل أن جميع الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية خرجوا معه في عمرة القضاء إلا من توفي أو استُشهد منهم في غزوة خيبر( ).
خامسًا: العودة إلى المدينة ونزول سورة الفتح:
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قاصدًا المدينة حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح قال تعالى: ( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) [الفتح: 11].
وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عظيم فرحته بنزولها وقال: أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس( ) ثم قرأ: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) [الفتح: 1]، فقال أصحاب رسول الله: هنيئًا مريئًا, فما لنا؟ فأنزل الله: ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) [الفتح: 5] ( ).
وقد أسرع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بكراع الغميم فقرأ عليهم ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ). فقال رجل: يا رسول الله, أفتح هو؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح( ), فانقلبت كآبة المسلمين وحزنهم إلى فرح غامر، وأدركوا أنهم لا يمكن أن يحيطوا بالأسباب والنتائج، وأن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام( ).
كان حديث القرآن الكريم عن هذا الحدث العظيم في سورة الفتح، وكان القرآن الكريم له منهجه الخاص في عرضه لغزوة الحديبية, فنجد في حديثه عن هذه الغزوة أنه سمى الصلح الذي وقع بين الفريقين مع عدم وقوع القتال فتحًا مبينًا.
إننا بالتأمل في أسباب النزول نجد أن سورة الفتح نزلت بعد انتهاء النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح وهو عائد إلى المدينة النبوية، وبعد أن خاض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تلك التجارب العظيمة من الأمل في العمرة، إلى مواجهة المشركين، إلى بيعة الرضوان, إلى الصلح الذي لم يكن بعض الصحابة راضين عنه ودارت في أنفسهم أشياء كثيرة حول هذه الأحداث الجسام.
ينزل القرآن الكريم ويبين للمسلمين بأن هذا الصلح هو فتح مبين، ويؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على صواب في قبول الصلح، بل لتزداد ثقة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم حين يبشره الله على الملأ من الدنيا بأن الله تعالى فتح بالصلح ليغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كرامة منه سبحانه لرسوله؛ ليزداد المسلمون ثقة واطمئنانًا بأنهم على الصواب، وأن ما فعلوه هو الحق ومآله السعادة، ثم بين سبحانه أن توفيق الله كان مع المؤمنين فهو الذي وفقهم للصبر مع رسوله, وموافقتهم أخيرًا على ما جنح له من أمر الصلح، وأن ذلك كان بسبب إنزال السكينة على قلوبهم حتى على قلوب من أنكر بعض شروط الصلح، واستسلم للأمر على مضض, فلم يحصل رفض لهذا الصلح بل كلهم نزلوا على أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بفضل السكينة التي أنزلها عليهم, قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) [الفتح: 4].
فالقرآن الكريم يبين أن الله هو الذي أنزل السكينة عليهم ليتذكروا فضله، ويداوموا على شكره، وهذا الإعلام بإنزال السكينة مما يتميز به حديث القرآن الكريم عن هذه الغزوة، إذ السكينة أمر معنوي لا يعلم نزوله إلا الله، وأشار القرآن الكريم إلى بيعة الرضوان وهي مبايعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم على الموت, فأثنى الله سبحانه وتعالى على هذه البيعة، وكتب لها الخلود في القرآن، وقرر أنها مبايعة لله عز وجل, فقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) [الفتح: 10].
وبهذا نرى ما يتميز به القرآن الكريم في حديثه عن الغزوات فهو يبين الحقائق ويصحح العقائد، ويربي النفوس، ويفضح المنافقين، ويبشر المسلمين بغنائم قريبة تحققت في خيبر، وبين أصحاب الأعذار, فليس كل من تخلف عن الجهاد يعاتب وإنما هناك استثناء، وهذا من كمال رحمته الإلهية، ثم لما تم صلح الحديبية وعاد المسلمون إلى المدينة ولم يتحقق ما قصدوه من دخول مكة أشار سبحانه وتعالى إلى الرؤيا التي سبقت أن رآها النبي صلى الله عليه وسلم وبشر بها أصحابه وبين أنها رؤيا صدق، وأنها ستتحقق, قال تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح: 27].
ثم اختتمت السورة الجليلة بصفات مدح للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الكرام.
قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا  مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) [الفتح: 28، 29].
لقد أيقن الصحابة الكرام أن الدعوة قد دخلت في طور جديد وفتح أكيد، وآفاق أوسع، وامتداد أرحب، وأن من طبيعة هذا الدين أن ينمو ويعيش في أجواء السلم والأمن أكثر منه وقت الحرب, ولمسوا مع الأيام نتائج صلح الحديبية التي كان من أهمها:
1- اعترفت قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة، فالمعاهدة دائمًا لا تكون إلا بين ندين، وكان لهذا الاعتراف أثره في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش الجحودي، حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة.
2- دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين، وتيقن الكثير منهم بغلبة الإسلام، وقد تجلت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير من صناديد قريش إلى الإسلام, مثل: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلفهم.
3- أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام وتعريف الناس به؛ مما أدى إلى دخول كثير من القبائل فيه، يقول الإمام الزهري: (فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضًا, والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة, فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر)( ).
وعقب عليه ابن هشام بقوله: والدليل على قول الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف( ).
4- أمن المسلمون جانب قريش فحولوا ثقلهم على اليهود, ومن كان يناوئهم من القبائل الأخرى، فكانت غزوة خيبر بعد صلح الحديبية.
5- مفاوضات الصلح جعلت حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليه، فهذا الحلس بن علقمة عندما رأى المسلمين يلبون رجع إلى أصحابه, قال: لقد رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
6- مكن صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم من تجهيز غزوة مؤتة, فكانت خطوة جديدة لنقل الدعوة الإسلامية بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية.
7- ساعد صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم على إرسال رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام.
8- كان صلح الحديبية سببًا ومقدمة لفتح مكة: يقول ابن القيم: كانت الهدنة مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطئ لها بين يديها بمقدمات وتوطئات تؤذن لها وتدل عليها( ).
سادسًا: أبو بصير في المدينة وقيادته لحرب العصابات:
في أعقاب صلح الحديبية مباشرة استطاع أبو بصير عتبة بن أسيد أن يفر بدينه من سجون الشرك في مكة المكرمة، وأن يلتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فبعثت قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله، ليرجعا به، تنفيذًا لشرط المعاهدة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك، فقال أبو بصير: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: يا أبا بصير، انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا( ). فانطلق معهما، وقد شق ذلك على المسلمين وهم ينظرون بحزن إلى أخيهم في العقيدة، وهو يعود إلى سجنه بمكة بعد أن استطاع أن يفلت من ظلم قريش، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهتم بالوفاء بالعهود والمواثيق، ولم يكن عنده مجرد نظرية مكتوبة على الورق، ولكنه كان سلوكًا عمليًّا في حياته وفي علاقته الدولية، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، وحذر من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنية, قال تعالى: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) [النحل: 91].
وقال جل وعلا: ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) [الإسراء: 34].
وبهذا يكون الوفاء بالعهد عند المسلمين قاعدة أصولية من قواعد الدين الإسلامي التي يجب على كل مسلم أن يلتزم بها( ).
لقد التزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهده مع قريش، وسلَّم أبا بصير إليهما (القرشيين) وانطلق معهما، فلما كانا بذي الحليفة، قال لأحد صاحبيه: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم، قال: أنظر إليه؟ قال: انظر إن شئت، فاستله أبو بصير، ثم علاه به حتى قتله، ففر الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتل صاحبكم صاحبي، فما لبث أبو بصير أن حضر، متوشحًا السيف، وقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه، أو يعبث بي( ), فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد» ( ), فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سيف البحر( )، وقد فهم المستضعفون بمكة من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا بصير بحاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وغيره حتى اجتمع عند أبي بصير عصبة قوية، فما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا طريقها وقتلوا من فيها، وأخذوا الأموال التي كانوا يتجرون بها، فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم لما أرسل إلى أبي بصير ومن معه، ومن أتاه منهم فهو آمن، وتخلوا في ذلك عن أقسى شروطهم التي صبوا فيها كؤوس كبريائهم، فذلت قريش من حيث طلبت العز( ).
فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم( ) وهم بناحية العيص، فقدموا عليه وكانوا قريبًا من الستين أو السبعين( ), فآوى النبي صلى الله عليه وسلم تلك العصبة المؤمنة التي أقضت مضاجع قريش، وأرغمتها على إسقاط شرطها التعسفي، فزادت بهم قوة المسلمين وقويت بهم شوكتهم، واشتد بأسهم.
غير أن أبا بصير، رأس تلك العصابة ومؤسسها، لم يقدر له أن يكون معها، فقد وافاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة، وهو على فراش الموت، فلفظ أنفاسه حيث كان في الثغر، وهواه في قلب المجتمع النبوي في المدينة( ).
إن قصة أبي جندل وأبي بصير وما احتملاه في سبيل العقيدة، وما أبدياه من الثبات والإخلاص والعزيمة والجهاد حتى مرغوا رؤوس المشركين بالتراب, وجعلوهم يتوسلون بالمسلمين لترك ما اشترطوه عليهم في الحديبية، هذه القصة نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها، وفيها ما يشير إلى مبدأ (قد يسع الفرد ما لا يسع الجماعة) فقد ألحق أبو بصير وجماعته الضرر بالمشركين في وقت كانت فيه دولة الإسلام لا تستطيع ذلك وفاء بالصلح، لكن أبا بصير وأصحابه خارج سلطة الدولة، ولو في ظاهر الحال، ولم يكن ما قام به أبو بصير والمستضعفون بمكة مجرد اجتهاد فردي لم يحظ بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر أبا بصير بالكف عن قوافل المشركين ابتداء أو بالعودة إلى مكة، لكن ذلك لم يحدث, فكان إقرارًا له، إذ كان موقف أبي بصير وأصحابه في غاية الحكمة حيث لم يستكينوا لطغاة مكة يفتنونهم عن دينهم ويمنعونهم من اللحاق بالمدينة، فاختاروا موقفًا فيه خلاصهم وإسناد دولتهم بأعمال تضعف اقتصاد مكة وتزعزع إحساسهم بالأمن في وقت الصلح، بل يمكن القول بأن اتخاذ هذا الموقف كان بإشارة وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم حين وصف أبا بصير( ) بأنه: «مسعر حرب لو كان معه أحد»( ).
سابعًا: امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات:
صممت مجموعة من النساء المستضعفات في مكة على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي مقدمة هؤلاء النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فقد هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية, فأراد كفار مكة أن يردوهن فأنزل الله تعالى في حقهن: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنْفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [الممتحنة: 10].
قال الأستاذ محمد الغزالي: (وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردوا النسوة المهاجرات بدينهن إلى أوليائهن، إما لأنهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، أو لأنهم خشوا على النساء اللاتي أسلمن، أن يضعفن أمام التعذيب والإهانة، وهن لا يستطعن ضربًا في الأرض، وردًا للكيد كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما، وأيا كان الأمر فإن احتجاز من أسلم من النساء تم بتعليم القرآن)( ).
* * *

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://theroadtoparadise.alafdal.net
 
السيرة النبوية الجزء الثاني -22
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» السيرة النبوية الجزء الثاني -14
» السيرة النبوية الجزء الثاني -30
» السيرة النبوية الجزء الثاني -15
» السيرة النبوية الجزء الثاني -31
» السيرة النبوية الجزء الثاني -16

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الطريق الى الجنة :: السيرة المطهرة-
انتقل الى: