المبحث الثالث
نشوب القتال وهزيمة المشركين
اندلع القتال بين المسلمين والمشركين بالمبارزات الفردية، فخرج من جيش المشركين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أرجعهم؛ لأنه أحب أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» وبارز حمزة شيبة فقتله، وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكر حمزة وعليَّ على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة وأتيا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ما لبث أن استُشهد متأثرا من جراحته وقد قال عنه صلى الله عليه وسلم: «أشهد أنك شهيد»( ) وفي هؤلاء الستة نزل قوله تعالى: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) [الحج: 19-24].
ولما شاهد المشركون قتل الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة استشاطوا غضبًا وهجموا على المسلمين هجومًا عامًا، صمد وثبت له المسلمون، وهم واقفون موقف الدفاع، ويرمونهم بالنبل كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم, وكان شعار المسلمين: أَحَد أَحَد، ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجوم المضاد محرضًا لهم على القتال وقائلا لهم: «شدوا» وواعدًا من يقتل صابرًا محتسبًا بأن له الجنة, ومما زاد في نشاط المسلمين واندفاعهم في القتال سماعهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) وعلمهم وإحساسهم بإمداد الملائكة وبتقليلهم في أعين المسلمين وتقليل المسلمين بأعين المشركين( ). فقد كان صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه ليلة اليوم الذي التقى فيه الجيشان, رأى المشركين عددهم قليل، وقد قص رؤياه على أصحابه فاستبشروا خيرًا قال تعالى: ( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ).
المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم -أي رأى المشركين- في منامه قليلا، فقص ذلك على أصحابه فكان ذلك سببًا لثباتهم, قال مجاهد: ولو رآهم في منامه كثيرًا لفشلوا وجبنوا عن قتالهم، ولتنازعوا في الأمر: هل يلاقونهم أم لا، والمضارع في الآية بمعنى الماضي؛ لأن نزول الآية كان بعد الإراءة في المنام ( وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ ) أي عصمهم من الفشل والتنازع فقللهم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم( ), فقص رؤياه على أصحابه فكان في ذلك تثبيت لهم وتشجيعهم وجرأتهم على عدوهم. وعند لقاء جيش المسلمين مع جيش المشركين، رأى كل منهم عدد الآخر قليلا، قال تعالى: ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) وإنما قللهم في أعين المسلمين تصديقًا لرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزدادوا يقينا ويجدُّوا في قتالهم ويثبتوا, قال عبد الله بن مسعود : قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له: كم كنتم؟ قال: ألفًا. وقوله تعالى: ( وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) حتى قال قائل من المشركين: إنما هم أكلة جزور.. ووجه الحكمة واللطف بالمسلمين في هذا التقليل، هو أن إراءة المسلمين عدد الكافرين قليلا ثبتهم ونشطهم وجرَّأهم على قتال المشركين، ونزع الخوف من قلوب المسلمين من أعدائهم. ووجه الحكمة في تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلا أقدموا على قتالهم غير خائفين ولا مبالين بهم، ولا آخذين الحذر منهم، فلا يقاتلون بجد واستعداد ويقظة وتحرز، ثم إذا ما التحموا بالقتال فعلا تفجؤهم الكثرة فيبهتون ويهابون، وتكسر شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، فيكون ذلك من أسباب خذلانهم وانتصار المسلمين عليهم( ).
أولاً: إمداد الله للمسلمين بالملائكة:
ثبت من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومرويات عدد من الصحابة البدريين؛ أن الله تعالى ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب, قال تعالى: ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) [الأنفال: 12]. وقال تعالى: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ).
وأورد البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وغيرهم عددًا من الأحاديث الصحيحة التي تشير إلى مشاركة الملائكة في معركة بدر، وقيامهم بضرب المشركين وقتلهم( ) .
فعن ابن عباس قال: (بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم.( ) فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيًا فنظر إليه فإذا هو خُطِم أنفه( )، وشُقَّ وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: «صدقت, ذلك مدد من السماء الثالثة»( ) ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب»( ). ومن حديث علي بن أبي طالب قال: (فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني, لقد أسرني رجل أجلح( ) من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق( ) ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم»( ). ومن حديث أبي داود المازني قال: (إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري)( ).
إن إمداد الله تعالى للمؤمنين بالملائكة أمر قطعي ثابت لا شك فيه، وأن الحكمة من هذا الإمداد تحصيل ما يكون سببًا لانتصار المسلمين، وهذا ما حصل بنزول الملائكة، فقد قاموا بكل ما يمكن أن يكون سببا لنصر المسلمين: من بشارتهم بالنصر، ومن تثبيتهم بما ألقوه في قلوبهم من بواعث الأمل في نصرهم، والنشاط في قتالهم، وبما أظهروه لهم من أنهم معانون من الله تعالى، وأيضا بما قام به بعضهم من الاشتراك الفعلي في القتال، ولا شك أن هذا الاشتراك الفعلي في القتال قوى قلوبهم وثبتهم في القتال، وهذا ما دلت عليه الآيات وصرحت به الأحاديث النبوية( ).
وقد يسأل سائل: ما الحكمة في إمداد المسلمين بالملائكة مع أن واحدًا من الملائكة كجبريل عليه السلام قادر بتوفيق الله على إبادة الكفار؟
وقد أجاب الأستاذ عبد الكريم زيدان على ذلك فقال: لقد مضت سنة الله بتدافع الحق وأهله مع الباطل وأهله، وأن الغلبة تكون وفقًا لسنن الله في الغلبة والانتصار، وأن هذا التدافع يقع في الأصل بين أهل الجانبين: الحق والباطل، ومن ثمرات التمسك بالحق والقيام بمتطلباته أن يحصلوا على عون وتأييد من الله تعالى، بأشكال وأنواع متعددة من التأييد والعون، ولكن تبقى المدافعة والتدافع يجريان وفقًا لسنن الله فيهما، وفي نتيجة هذا التدافع فالجهة الأقوى بكل معاني القول اللازمة للغلبة هي التي تغلب، فالإمداد بالملائكة هو بعض ثمرات إيمان تلك العصبة المجاهدة، ذلك الإمداد الذي تحقق به ما يستلزم الغلبة على العدو، ولكن بقيت الغلبة موقوفة على ما قدمه أولئك المؤمنون في قتال ومباشرة لأعمال القتال، وتعرضهم للقتل، وصمودهم وثباتهم في الحرب، واستدامة توكلهم على الله، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، وهذه معانٍ جعلها الله حسب سننه في الحياة أسبابًا للغلبة والنصر، مع الأسباب الأخرى المادية، مثل العُدة والعدد والاستعداد للحرب وتعلم فنونه... إلخ. ولهذا فإن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يباشروا بأنفسهم إزهاق الباطل وقتال المبطلين، وأن يهيئوا الأسباب المادية والإيمانية للغلبة والانتصار، وبأيديهم إن شاء الله تعالى ينال المبطلون ما يستحقونه من العقاب( ), قال تعالى: ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 14، 15].
إن نزول الملائكة عليهم السلام من السماوات العلى إلى الأرض لنصر المؤمنين حدث عظيم.
إنه قوة عظمى، وثبات راسخ للمؤمنين حينما يوقنون بأنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وأنهم إذا حققوا أسباب النصر واجتنبوا موانعه, فإنهم أهل لمدد السماء، وهذا الشعور يعطيهم جرأة في مقابلة الأعداء، وإن كان ذلك على سبيل المغامرة، لبعد التكافؤ المادي بين جيش الكفار الكبير عددًا القوي إعدادًا وجيش المؤمنين القليل عددًا الضعيف إعدادًا.
وهو في نفس الوقت عامل قوي في تحطيم معنوية الكفار وزعزعة يقينهم، وذلك حينما يشيع في صفوفهم احتمال تكرار نزول الملائكة الذين شاهدهم بعضهم عيانًا، إنهم مهما قدروا قوة المسلمين وعددهم فإنه سيبقى في وجدانهم رعب مزلزل من احتمال مشاركة قوى غير منظورة لا يعلمون عددها ولا يقدرون مدى قوتها، وقد رافق هذا الشعور المؤمنين في كل حروبهم التي خاضها الصحابة رضي الله عنهم في العهد النبوي، وفي عهد الخلفاء الراشدين, كما رافق بعض المؤمنين بعد ذلك فكان عاملاً قويًا في انتصاراتهم المتكررة الحاسمة مع أعدائهم( ).
ثانيًا: انتصار المسلمين على المشركين وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل القليب:
انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين على المشركين, وكان قتلى المشركين سبعين رجلا، وأسر منهم سبعون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، منهم ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار, ولما تم الفتح وانهزم المشركون أرسل صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله للمسلمين وهزيمة المشركين( ). ومكث صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة أيام، فعن أنس قال: (إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال...)( ) ولعل الحكمة في ذلك:
1- تصفية الموقف بالقضاء على أية حركة من المقاومة اليائسة التي يحتمل أن يقوم بها فلول المنهزمين الفارين هربًا إلى الجبال.
2- دفن من استُشهد من جند الله مما لا تكاد تخلو منه معركة، فقد دفن شهداء المسلمين في أرض المعركة، ولم يرد ما يشير إلى الصلاة عليهم، ولم يدفن أحد منهم خارج بدر( ).
3- جمع الغنائم وحفظها، وإسناد أمرها إلى من يقوم بهذا الحفظ حتى تؤدى كاملة إلى مستحقيها، وقد أسندت أنفال وغنائم بدر إلى ابن الحارث عبد الله بن كعب الأنصاري، أحد بني مازن( ).
4- إعطاء الجيش الظافر فرصة يستروح فيها، بعد الجهد النفسي والبدني المضني الذي بذله أفراده في ميدان المعركة، ويضمد فيها جراح مجروحيه، ويذكر نعم الله عليه فيما أفاء الله عليه من النصر المؤزر الذي لم يكن داني القطوف، سهل المنال، ويتذاكر أفراده وجماعاته ما كان من أحداث ومفاجآت في الموقعة، مما كان له أثر فعال في استجلاب النصر، وما كان من فلان في شجاعته وفدائيته وجرأته على اقتحام المضائق وتفريج الأزمات، وما تكشفت عنه المعركة من دروس عملية في الكر والفر, والتدبير المحكم الذي أخذ به العدو، وما في ذلك من عبر، واستذكار أوامر القيادة العليا وموقفها في رسم الخطط، ومشاركتها الفعلية في تنفيذها، ليكون من كل ذلك ضياء يمشون في نوره في وقائعهم المستقبلية، ويجعلون منه دعائم لحياتهم في الجهاد الصبور المظفر بالنصر المبين.
5- مواراة جيف قتلى الأعداء الذين انفرجت المعركة عن قتلهم، والتعرف عليهم وعلى مكانتهم في حشودهم, وعلى من بقي منهم مصروعًا بجراحه لم يدركه الموت، للإجهاز على من ترى قيادة جيش الإسلام المصلحة في القضاء عليه اتقاء شره في المستقبل, كالذي كان من أمر الفاسق أبي جهل فرعون هذه الأمة، والذي كان في شأن رأس الكفر أمية بن خلف وأضرابهما، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلقاء هؤلاء الأخباث في رَكِيٍّ( ) من قُلُب( ) بدر خبيث مُخْبث, ثم وقف على شفة الركي( ), وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى فقال: «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس»( ).
ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب» ( ). قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا، وتصغيرًا، ونقمة، وحسرة، وندمًا( ).
إن مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم لقتلى قريش بينت أمرًا عظيمًا، وهو أنهم بدَأوا حياة جديدة، هي حياة البرزخ الخاصة، وهم فيها يسمعون كلام الأحياء، غير أنهم لا يجيبون ولا يتكلمون، والإيمان بهذه الحياة من عقائد المسلمين، ونعيم القبر وعذابه ثابتان في صحيح الأحاديث، حتى إنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين وقال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير»( ), وذكر أن سبب تعذيبهما النم بين الناس، وعدم الاستنزاه من البول( ). ولا بد من التسليم بهذه الحقائق الغيبية، بعد أن تحدث عنها الصادق المصدوق، وقطع بها القرآن الكريم في تعذيب آل فرعون, قال تعالى: ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) [غافر: 46]. وأما الشهداء فقد قال الله تعالى فيهم: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) [آل عمران: 169].
* * *
المبحث الرابع
مشاهد وأحداث من المعركة
أولاً: مصارع الطغاة:
أ- مصرع أبي جهل بن هشام المخزومي:
قال عبد الرحمن بن عوف : بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما( ), فغمزني( ) أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها.
قال: فلم أنشب( ) أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا. فنظر في السيفين فقال: «كلاكما قتله»، وقضى بسَلَبـِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح( ) .وفي حديث أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «من ينظر ما صنع أبو جهل؟» فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضرباه (ابنا عفراء حتى برد( ) فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل، قال: وهل فوق رجل قتله قومه أو قال: قتلتموه ( ), وفي حديث عبد الله بن مسعود قال: أدركت أبا جهل يوم بدر صريعا، فقلت: أي عدو الله قد أخزاك الله؟ قال: وبما أخزاني؟ من رجل قتلتموه، ومعي سيف لي، فجعلت أضربه ولا يحتك فيه شيء، ومعه سيف له جيد، فضربت يده فوقع السيف من يده فأخذته، ثم كشفت المغفر عن رأسه، فضربت عنقه، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟» قلت: الله الذي لا إله إلا هو. قال: فانطلق فاستثبت فانطلقت وأنا أسعى مثل الطائر، ثم جئت وأنا أسعى مثل الطائر أضحك فأخبرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلق» فانطلقت معه فأريته، فلما وقف عليه صلى الله عليه وسلم قال: «هذا فرعون هذه الأمة» ( ).
كان الدافع من حرص الأنصاريين الشابين على قتل أبي جهل ما سمعاه من أنه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهكذا تبلغ محبة شباب الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذل النفس في سبيل الانتقام ممن تعرض له بالأذى.
وما جرى بين عبد الله بن مسعود وأبي جهل وهو في الرمق الأخير من الحوار فيه عبرة بليغة، فهذا الطاغية الذي كان شديد الأذى للمسلمين في مكة قد وقع صريعًا بين أيدي من كان يؤذيهم. ويشاء الله تعالى أن يكون الذي يقضي على آخر رمق من حياته هو أحد المستضعفين، ولقد كان أبو جهل مستكبرًا جبارًا حتى وهو صريع وفي آخر لحظات حياته( ). فقد جاء في رواية لابن إسحاق أنه قال لعبد الله بن مسعود لما أراد أن يحتز رأسه: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم( ).
فالله تعالى لم يعجِّل لهذا الخبيث أبي جهل بضربات الأبطال من أشبال الأنصار، ولكنه أبقاه مصروعًا في حالة من الإدراك والوعي بعد أن أصابته ضربات أشفت به على الهلاك الأبدي، ليريه بعين بصره ما بلغه من المهانة والذل والخذلان على يد من كان يستضعفه ويؤذيه، ويضطهده بمكة من رجال الرعيل الأول -السابقين إلى مظلّة الإيمان وطهر العقيدة، والتعبد لله بشرائعه، التي أنزلها رحمة للعالمين- عبد الله بن مسعود فيعلو على صدره، ويدوسه بقدميه، ويقبض على لحيته تحقيرًا له، ويقرّعه تقريعًا يبلغ من نفسه مجمع غروره واستكباره في الأرض، ويستل منه سيفه إمعانًا في البطش به فيقتله به، ويمعن في إغاظته بإخباره أن النصر عقد بناصية جند الله وكتيبة الإسلام، وأن شنار الهزيمة النكراء وعارها، وخزيها وخذلانها قد رزئت به كتائب الغرور الأجوف في حشود النفير الذي قاده هذا الكفور الخبيث...( ).
ب- مصرع أمية بن خلف:
قال عبد الرحمن بن عوف : كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي( ) بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت (الرحمن) قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته (عبد عمرو).
فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه( ) حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال: أمية بن خلف لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم، فقتلوه ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له: ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتجللوه( ) بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه, وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه( ).
وفي رواية أخرى لعبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك أبوك؟ قال: فأقول نعم. قال: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به، أما أنت فلا تجبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال: وكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه، قال: فقلت: يا أبا علي اجعل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: قلت: نعم. قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله فأجبته فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه علي، وهو آخذ بيده قال: ومعي أدراع لي قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآني قال: يا عبد عمرو فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم، قال: هل لك فيَّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قال: قلت: نعم، ها لله؟ قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده وبيد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ ثم خرجت أمشي بهما، قال ابن هشام: يريد باللبن أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن( ).
ونلحظ من الروايات السابقة:
1- ما جرى من بلال حينما رأى عدوه اللدود أمية بن خلف الذي كان يسومه أقسى وأعنف أنواع العذاب في مكة، فلما رآه في يد عبد الرحمن بن عوف أسيرًا صرخ بأعلى صوته: لا نجوت إن نجا.
إنه موقف من مواقف التشفي في أعداء الله، والتشفي من كبار الكفرة الفجار وفي الحياة الدنيا نعمة يفرج الله بها عن المكروبين من المؤمنين الذين ذاقوا الذل والهوان على أيدي أولئك الفجرة الطغاة, قال تعالى: ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 14، 15].
2- إن فيما جرى لأمية بن خلف من قتل مفزع درسًا بليغًا للطغاة المتجبرين، وعبرة للمعتبرين، الذين يغترون بقوتهم وينخدعون بجاههم ومكانتهم، فيعتدون على الضعفاء، ويسلبونهم حقوقهم، فمآلهم إلى عاقبة سيئة ووخيمة في الآخرة، وقد يمكن الله للضعفاء منهم في الدنيا قبل الآخرة كما حدث لأمية بن خلف وأضرابه من طغاة الكفر( ), قال تعالى: ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) [القصص: 5].
3- وفي قول عبد الرحمن بن عوف: «يرحم الله بلالا ذهبت أدراعي وفجعني بأسيريَّ»( ) مع ما جرى من بلال من معارضة وانتزاع الأسيرين من يده بقوة الأنصار الذين استنجد بهم دليل على قوة الرباط الأخوي بين الصحابة الكرام( ).
4- موقف لأم صفوان بنت أمية: قيل لأم صفوان بنت أمية بعد إسلامها، وقد نظرت إلى الحباب بن المنذر بمكة: هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر، قالت: دعونا من ذكر من قُتل على الشرك، قد أهان الله عليًا بضربه الحباب بن المنذر، وأكرم الله الحباب بضربه عليًا، قد كان على الإسلام حين خرج من هاهنا، فقتل على غير ذلك( )، وهذا الموقف يدل على قوة إيمانها، ورسوخ يقينها حيث اتضحت لها عقيدة الولاء والبراء، فأصبحت تحب المسلمين وإن كانوا من غير قبيلتها، وتكره الكافرين وإن كانوا من أبنائها( ).
وقولها على ابنها علي: «قد كان على الإسلام حين خرج من ههنا فقتل على غير ذلك» تعني أنه كان ممن عرف عنهم الإسلام بمكة وخرجوا مع قومهم يوم بدر مكرهين, فلما التقى الصفان فتنوا حينما رأوا قلة المسلمين فقالوا: قد غر هؤلاء دينهم( ), فنزل فيهم قول الله تعالى: ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 49].
ج- مصرع عبيدة بن سعيد بن العاص على يد الزبير:
قال الزبير بن العوام : لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج( ) لا يرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة فطعنته في عينه فمات، قال هشام، فأُخبرت أن الزبير قال: (لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها، وقد انثنى طرفاها).
قال عروة: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاها، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قُتل( ).
(هذا الخبر يصور لنا دقة الزبير بن العوام في إصابة الهدف، حيث استطاع أن يضع الحربة في عين ذلك الرجل مع ضيق ذلك المكان, وكونه قد وزع طاقته بين الهجوم والدفاع، فلقد كانت إصابة ذلك الرجل بعيدة جدًا لكونه قد حمى جسمه بالحديد الواقي، لكن الزبير استطاع إصابة إحدى عينيه، فكانت بها نهايته، ولقد كانت الإصابة شديدة العمق مما يدل على قوة الزبير الجسدية، إضافة إلى دقته ومهارته في إصابة الهدف)( ).
د- مصرع الأسود المخزومي:
قال ابن إسحاق: وقد خرج الأسود المخزومي، وكان رجلاً شرسًا سيئ الخلق فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن( ) قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب( ) رجله دمًا نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن يبر يمينه, وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض( ).
وقد سأل أمية بن خلف عبد الرحمن بن عوف عن الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ فأجابه عبد الرحمن: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال أمية: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل( ): وهذه شهادة من أحد زعماء الكفر، وهذا يعني أنه قد أثخن في جيش الأعداء قتلاً وتشريدًا( ).
وكان هذا أول من قتل من المشركين بيد أسد الله تعالى حمزة بن عبد المطلب , فقد جاء هذا اللئيم الشرس يتحدى المسلمين، فتصدى له بطل الإسلام حمزة، فقضى عليه ولقن أمثاله من الحاقدين المتكبرين درسًا في الصميم( ).
ثانيًا: من مشاهد العظمة:
أ- استشهاد حارثة بن سراقة: عن أنس قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: «ويحك أَوَهَبلْتِ أَوَجَنَّة واحدة هي؟ إنها جنانٌ كثيرةٌ, وإنه في جنةِ الفردوسِ»( ) وفي رواية: «يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى»( ).
ب- استشهاد عوف بن الحارث: قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن عوف بن مالك وهو ابن عفراء( ) قال: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ قال: «غمسة يده في العدو حاسرًا»( ) فنزع درعًا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتل( ).
وهذا الخبر يدل على قوة ارتباط الصحابة الكرام بالآخرة، وحرصهم على رضوان الله تعالى؛ ولذلك انطلق عوف بن الحارث كالسهم وهو حاسر غير متدرع يثخن في الأعداء حتى أكرمه الله بالشهادة، لقد تغيرت مفاهيم المجتمع الجديد، وتعلق أفراده بالآخرة، وأصبحوا حريصين على مرضاته بعد أن كان جل همهم أن تتحدث عنهم النساء عن بطولاتهم، ويرضى سيد القبيلة عنهم، وتنشد الأشعار في شجاعتهم( ).
ج- استشهاد سعد بن خيثمة ثم أبيه رضي الله عنهما: قال الحافظ ابن حجر: قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: استهم يوم بدر سعد بن خيثمة وأبوه فخرج سهم سعد فقال له أبوه: يا بني آثرني اليوم، فقال سعد: يا أبت لو كان غير الجنة فعلت، فخرج سعد إلى بدر فقُتِلَ بها، وقتل أبوه خيثمة يوم أحد( ).
وهذا الخبر يعطي صورة مشرقة عن بيوتات الصحابة في تنافسهم وتسابقهم على الجهاد في سبيل الله تعالى، فهذا سعد بن خيثمة ووالده لا يستطيعان الخروج معًا لاحتياج أسرتهما وعملهما لبقاء أحدهما، فلم يتنازل أحدهما عن الخروج رغبة في نيل الشهادة حتى اضطروا إلى الاقتراع بينهما، فكان الخروج من نصيب سعد -رضي الله عنهما-، وكان الابن في غاية الأدب مع والده، ولكنه كان مشتاقًا إلى الجنة فأجاب بهذا الجواب البليغ: (يا أبت لو كان غير الجنة فعلت)( ).
د- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة: عن عائشة رضي الله عنها -في حديثها عن طرح قتلى قريش في القليب بعد معركة بدر- قالت: (فلما أمر بهم فسحبوا عرف في وجه أبي حذيفة بن عتبة الكراهية، وأبوه يسحب إلى القليب, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا حذيفة لكأنه ساءك ما كان في أبيك؟» فقال والله يا رسول الله ما شككت في الله وفي رسوله، ولكن إن كان حليمًا سديدًا ذا رأي، فكنت أرجو أن لا يموت حتى يهديه الله عز وجل إلى الإسلام، فلما رأيت أن قد فات ذلك ووقع حيث وقع أحزنني ذلك، قال: «فدعا له رسول الله بخير»( ).
هـ - عمير بن أبي وقاص: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وعرض عليه جيش بدر رد عمير بن أبي وقاص فبكى عمير فأجازه، فعقد عليه حمائل سيفه، ولقد كان عمير يتوارى حتى لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة( )، وقد استُشهد بالفعل.
* * *