لذلك هداهم تفكيرهم المعوج أن يطلبوا من الرسول عليه السلام مطالب, ليس الغرض منها التأكد من صدق النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن غرضهم منها التعنت والتعجيز, وهذا ما طلبوه من الرسول عليه الصلاة والسلام:
أ- أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا: أي يجري لهم الماء عيونًا جارية.
ب- أو تكون له جنة من نخيل وأعناب يفجر الأنهار خلالها تفجيرًا، أي تكون له حديقة فيها النخل والعنب, والأنهار تتفجر بداخلها.
ج- أو يسقط السماء كسفًا: أي يسقط السماء قطعًا كما سيكون يوم القيامة.
د- أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً.
هـ- أو يكون له بيت من زخرف: أي ذهب.
و- أو يرقى في السماء: أي يتخذ سلمًا يرتقي عليه ويصعد إلى السماء.
ز- إنزال كتاب من السماء يقرؤونه، يقول مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد صحيفة,هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان تصبح موضوعة عند رأسه( ).
ح- لبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فيسير لهم الجبال، ويقطع الأرض، ويبعث من مضى من آبائهم من الموتى( ).
إن عملية طلب الخوارق والمعجزات هي خطة متبعة على مدى تاريخ البشرية الطويل، ورغم حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان قومه، وتفانيه في ذلك، لكن التربية الربانية التي تلقاها من ربه، والأدب النبوي الذي تأدب عليه، جعله يرفض طلب المعجزة( ) وإنما كانت إجابته صلى الله عليه وسلم:
«ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم» ).
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته مما طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه,( ) وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التعنتات والرد عليها في قوله سبحانه ( وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرُؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) [الإسراء: 90-96].
ونزل قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )( )
[الرعد: 31].
إن الحكمة في أنهم لم يجابوا لما طالبوا، لأنهم لم يسألوا مسترشدين وجادين، وإنما سألوا متعنتين ومستهزئين، وقد علم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما طلبوا لما آمنوا، وللجُّوا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يترددون، قال سبحانه: ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) [الأنعام: 109-111].
ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ألا يجابوا على ما سألوا؛ لأن سنته سبحانه أنه إذا طلب قوم آيات فأجيبوا، ثم لم يؤمنوا, عذَّبهم عذاب الاستئصال كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون.
وليس أدل على أن القوم كانوا متعنتين وساخرين، ومعوقين لا جادين, من أن عندهم القرآن وهو آية من الآيات، وبينة البينات، ولذلك لما سألوا ما اقترحوا من هذه الآيات وغيرهم رد عليهم سبحانه( ) بقوله: ( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) [العنكبوت: 50-52].
وقد ذكر عبد الله بن عباس رواية مفادها: أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ادعُ لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك, قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال فدعاه: فأتاه جبريل فقال: إن ربك –عز وجل– يقرأ عليك السلام، ويقول إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة، والرحمة، فقال: بل باب التوبة والرحمة، فأنزل الله تعالى: ( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا )[الإسراء: 59]( ).
لقد كان هدف زعماء قريش من تلك المطالب, هو شن حرب إعلامية ضد الدعوة والداعية, والتآمر على الحق, كي تبتعد القبائل العربية عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يطالبون بأمور يدركون أنها ليست طبيعة هذه الدعوة؛ ولهذا أصروا عليها، بل لقد صرحوا بأن لو تحقق شيء من ذلك فلن يؤمنوا أيضا بهذه الدعوة، وهذا كله محاولة منهم لإظهار عجز الرسول صلى الله عليه وسلم واتخاذ ذلك ذريعة لمنع الناس عن اتباعه( ).
تاسعًا: دور اليهود في العهد المكي واستعانة مشركي مكة بهم:
تحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل طويلاً في سور كثيرة, بلغت خمسين سورة في المرحلة المكية، وفي المرحلة المدنية, كان دور اليهود كبيرًا في محاولة إطفاء نور الله, والقضاء على دعوة الإسلام, وعلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تحظ ملة من الملل؛ ولا قوم من الأقوام بالحديث عنهم بمثل هذا الشمول, وهذه التفصيلات ما حظي به اليهود، وحديث القرآن عنهم يتسم بمنهج دقيق يتناسب مع المراحل الدعوية التي مرت بها دعوة الإسلام، فقد جاءت الآيات الكريمة تشير إلى أن غفلة المشركين عن الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم اكتراثهم به وبدعوته, له نماذج بشرية تقدمتهم، مثل عاد وثمود وفرعون وبني إسرائيل وقوم تبع، وأصحاب الرس( )
عندما وجدت قريش نفسها عاجزة أمام دعوة الحق، وكان المعبر عن هذا العجز, النضر بن الحارث الذي صرح قائلا: «يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد.. فانظروا في شأنكم, فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم» فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط, إلى أحبار اليهود بالمدينة, لمعرفة حقيقة هذه الدعوة, لا لكي يتبعوها، ولكن لإدراكهم أن اليهود قد يمدونهم بأشياء تظهر عجز الرسول صلى الله عليه وسلم لمعرفة زعماء مكة بحقد اليهود المنصب على الأنبياء جميعًا وأصحاب الحق أينما كانوا، كانت بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم صدمة قوية لليهود؛ وذلك لأنهم عاشوا في جزيرة العرب على حلم توارثوه طوال السنين الماضية, وهو أنه سيُبعث نبي مخلص في ذلك الزمان والمكان، فرجوا أن يكون منهم، آملين أن يخلصهم من الفرقة والشتات الذي كانوا فيه( ).
كان التقارب بين معسكر الكفر والشرك مع اليهود, ينسجم مع أهدافهم المشتركة للقضاء على دعوة الإسلام، ولذلك زودوا الوفد المكي ببعض الأسئلة محاولة لتعجيز النبي صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد, وصفوا لهم صفته, وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدنية، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله, وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح, ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غدًا بما سألتم عنه، ولم يستثن( ) فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمدًا غدًا واليوم خمس عشرة، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ).
كانت سورة الكهف قد احتوت على الإجابة لأسئلتهم, وإشارة إلى أن كهفًا من عناية الله سوف يأوي هؤلاء المستضعفين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, كما آوى الكهف الجبلي الفتية المؤمنين الفارين بدينهم من الفتنة.
وأن نفوسًا ستبش في وجوه هذه العصبة, من أنصار دين الله في يثرب, بالقرب من الذين عاضدوا قريشًا في شكهم، وحاولوا معهم طمس نور الحق بتلقينهم المنهج التعجيزي في التثبت في أمر النبوة, وهو منهج غير سليم، فمتى كانت الأسئلة التعجيزية وسيلة التحقق من صدق الرسالة وصاحبها، فهذا نبي الله موسى عليه السلام وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل لم يعلم تأويل الأحداث الثلاثة التي جرت أمامه، وأنكر على الخضر تصرفاته, على الرغم من تعهده أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرًا، على الرغم من كل ذلك لم تؤثر الأحداث وما دار حولها في نبوة موسى عليه السلام شيئا، ولم يشكك بنو إسرائيل في نبوته, فلم يجعلوا مثل هذه الأسئلة أسلوبًا للتحقق من صدق الرسالة( ).
جعل الله هذه المناسبة وسيلة للإشارة إلى قرب الفرج للعصبة المؤمنة ليجدوا مأوى كما وجد الفتية المأوى، وليبش في وجوههم أهل المدينة كما بش أهل المدينة في وجه هؤلاء الفتية, ثم ذهبوا إليهم ليكرموهم وليخلدوا ذكراهم( ).
عاشرًا: الحصار الاقتصادي والاجتماعي في آخر العام السابع من البعثة:
ازداد إيذاء المشركين من قريش, أمام صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى وإصرارهم على الدعوة إلى الله، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، وبلوغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي, الذي ضربته قريش ظلمًا وعدوانًا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ومن عطف عليهم من قرابتهم( ).
قال الزهري: «ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا, حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها, أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب, وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم, ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودًا ومواثيق، لا يتقبلوا من بني هاشم أبدًا صلحًا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل( ).
وفي رواية: ... على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم( ).
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاما يقدم من مكة ولا بيعًا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى فراشه, حتى يراه من أراد به مكرًا أو غائلة، فإذا نام الناس أخذ أحد بنيه أو إخواته أو بني عمه, فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها( ).
واشتد الحصار على الصحابة, وبني هاشم, وبني المطلب, حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، وحتى أصيبوا بظلف العيش وشدته، إلى حد أن أحدهم يخرج ليبول فيسمع بقعقعة شيء تحته، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها فيغسلها، ثم يحرقها ثم يسحقها، ثم يستفها، ويشرب عليها الماء فيتقوى بها ثلاثة أيام( )، وحتى لتسمع قريش صوت الصبية يتضاغون من وراء الشِّعب من الجوع( ).
فلما كان رأس ثلاث سنين، قيض الله سبحانه وتعالى لنقض الصحيفة أناسًا من أشراف قريش، وكان الذي تولى الانقلاب الداخلي لنقض الصحيفة هشام بن عمرو الهاشمي، فقصد زهير بن أبي أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب, فقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم, ما أجابك إليه أبدًا, قال: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبغنا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعًا قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد قال: قد وجدت لك ثانيًا: قال من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثًا: قال: قد فعلت، قال: من؟ قال زهير بن أبي أمية، فقال أبغنا رابعًا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي، فقال له: ويحك وهل نجد أحد يعين على ذلك؟ قال: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، فقال: أبغنا خامسًا، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابته وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال نعم، ثم سمى له القوم، فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل، وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، فقال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كُتبت فيها، ولا نقر به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ من الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك؟ فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تُشووِر فيه في غير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم.
وقام المعطم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم) ( )، وروى ابن إسحاق أن الله عز وجل أرسل على الصحيفة الأرضة فلم تدع فيها اسمًا لله عز وجل إلا أكلته، وبقي فيها الظلم والقطعية والبهتان وأخبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بذلك عمه فذهب أبو طالب إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذبًا فلكم علي أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقًا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المطعم بن عدي وهشام بن عمرو: نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالئ أحدًا في فساد أنفسنا وأشرافنا، وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرجوا من الشِّعب( ).
دروس وعبر وفوائد:
1- إن مشركي بني هاشم وبني المطلب تضامنوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحموه كأثر من أعراف الجاهلية، ومن هنا ومن غيره نأخذ أنه يسع المسلم أن يستفيد من قوانين الكفر فيما يخدم الدعوة, على أن يكون ذلك مبنيًّا على فتوى صحيحة من أهلها( ).
2- إن حقوق الإنسان في عصرنا ضمان للمسلم، والحرية الدينية في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثيرة من أقطار العالم تعطي للمسلمين فرصًا وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك وغيره من خلال موزانات دقيقة( ).
3- من المهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغل هذه الحماية من قبل المسلمين كوسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم فأنعم بذلك من جهد مشكور وسبيل ينتبهون إليها( ).
4- انتصر أبو طالب في غزو المجتمع القرشي بقصائده الضخمة, التي هزت كيانه هزًّا وتحرك لنقض الصحيفة من ذكرنا من قبل، أولئك الخمسة الذين يمتون بصلة قرابة أو رحم لبني هاشم, وبني المطلب واستطاعوا أن يرفعوا هذا الظلامة, وهذا الحيف عن المسلمين وأنصارهم وحلفائهم وخططوا له ونجحوا فيه وفي هذا الموقف إشارة إلى أن كثيرًا من النفوس, والتي تبدو في ظاهر الأمر من أعمدة الحكم الجاهلي، قد تملك في أعماقها رفضًا لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة المناسبة لإزاحته، وعلى أبناء المسلمين أن يهتموا بهذه الشرائح، وينفذوا إلى أعماقها، وتوضح لهم حقيقة القرآن الكريم, والسنة النبوية الشريفة، وتبين لها طبيعة العداء بين الإسلام واليهود والصليبيين والعلمانية، فقد يستفاد منهم في خدمة الإسلام( ).
5- وظاهرة أبي لهب تستحق الدراسة والعناية؛ لأنها تتكرر في التاريخ الإسلامي، فقد يجد الدعاة من أقرب حلفائهم من يقلب لهم ظهر المجن، ويبالغ في إيذاء الدعاة، وحربهم أكثر بكثير يلقونه من خصومهم الألداء الأشداء( ).
6- كانت تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم لأفراد المسلمين ألاَّ يواجهوا العدو، وأن يضبطوا أعصابهم، فلا يشعلوا فتيل المعركة, أو يكونوا وقودها، وإن أعظم تربية في هذه المرحلة هي صبر أبطال الأرض على هذا الأذى, دون مقاومة. حمزة وعمر، وأبو بكر وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم، سمعوا وأطاعوا، فلقوا كل هذا الأذى وهذا الحقد، وهذا الظلم، فكفوا أيديهم، وصبروا ليس على حادثة واحدة فقط، أو يومًا واحدًا فقط بل ثلاث سنين عجاف, تحترق أعصابهم ولا يسمح لهم برمية سهم أو شجة رأس( ).
7- أثبتت الأحداث عظمة الصف المؤمن, في التزامه بأوامر قائده، وبعده عن التصرفات الطائشة، فلم يكن شيء أسهل من اغتيال أبي جهل، وإشعال معركة غير مدروسة لا يعلم إلا الله مداها، وغير متكافئة.
8- كانت الدعوة الإسلامية تحقق انتصارات رائعة في الحبشة، وفي نجران، وفي أزد شنوءة، وفي دَوْس، وفي غفار، وكانت تتم في خط واضح, سيكون سندًا للإسلام والمسلمين ومراكز قوى يمكن أن تتحرك في اللحظة الحاسمة، وامتدادات للدعوة، تتجاوز حدود مكة الصلدة المستعصية.
9- كانت هذه السنوات الثلاثة للجيل الرائد, زادًا عظيمًا في البناء والتربية, حيث ساهم بعضه في تحمل آلام الجوع والخوف، والصبر على الابتلاء، وضبط الأعصاب، والضغط على النفوس والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار.
10- كانت بعض الشخصيات في الصف المشرك, تبني في داخلها بالتربية النبوية، وتتأثر بعظمة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وتتفاعل في أعماقها مع المبادئ التي يقدمها الدين الجديد، لكن سيطرة الملأ وسطوة الكبراء, كانت تحول دون إبراز هذا التفاعل وهذا الحب وهذه التربية، وختام قصة الصحيفة تقدم لنا أجلى بيان عن ذلك( ).
11- قيام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة, والمعجزات الخارقة لا يؤثر في أصحاب الهوى وعبدة المصالح والمنافع؛ لأنهم يلغون عقولهم عن التدبر، ويصمون آذانهم عن سماع الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر والتأمل والاهتداء إلى الحق بعد قيام الأدلة عليه، فلقد أخبرهم أبو طالب بما اخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث للصحيفة من أكل الأرضة لها وبقاء اسم الله فقط (باسمك اللهم) ورأوا ذلك بأم أعينهم فما آمن منهم أحد، إنه الهوى الذي يُغشي عن الحق، ويصم الآذان عن سماعه( ).
12- كانت حادثة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية سببًا في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج, ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، أثار ذلك في نفوسهم أن هذه الدعوة حق، ولولا ذلك لما تحمل صاحب الرسالة وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب.
13- أثار هذا الحصار سخط العرب على كفار مكة لقسوتهم على بني هاشم وبني المطلب، كما أثار عطفهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما أن انفك الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام، وحتى ذاع أمر هذه الدعوة وتردد صداها في كل بلاد العرب، وهكذا ارتد سلاح الحصار الاقتصادي على أصحابه، وكان عاملاً قويًّا من عوامل انتشار الدعوة الإسلامية عكس ما أراد زعماء الشرك تمامًا( ).
14- كان لوقوف بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله وتحملهم معه الحصار الاقتصادي والاجتماعي أثر في الفقه الإسلامي، حيث إن سهم ذوي القربى من الخمس يعطى لبني هاشم وبني المطلب, ويوضح ابن كثير هذا الحكم لدى تفسيره قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الأنفال: 41].
فيقول: «وأما سهم ذوي القربى, فإنه يصرف إلى بني هاشم, وبني المطلب؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية, وفي أول الإسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية لهم، مسلمهم طاعة لله ورسوله وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب، وأما بنو عبد شمس, وبنو نوفل, وإن كانوا بني عمهم, فلم يوافقوهم على ذلك, بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم لشدة قربهم.. وفي بعض الروايات هذا الحديث: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» وهذا قول جمهور العلماء إنهم بنو هاشم وبنو المطلب»( ).
15- لما أذن الله بنصر دينه، وإعزاز رسوله، وفتح مكة، ثم حجة الوداع، كان
النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر أن ينزل في خَيْف بني كنانة ليتذكر ما كانوا فيه من الضيق والاضطهاد، فيشكر الله على ما أنعم عليه من الفتح العظيم، ودخولهم مكة، التي أخرجوا منها، وليؤكد قضية انتصار الحق واستعلائه، وتمكين الله لأهله الصابرين,( ) فعن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله أين تنزل غدًا؟ في حجته، قال: «وهل ترك لنا عقيل منزلا؟» ثم قال: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، المحصب، حيث قاسمت قريش على الكفر» وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا على بني هاشم, أن لا يبايعوهم, ولا يؤوهم، قال الزهري: والخيف الوادي( ).
16- على كل شعب في أي وقت، يسعى لتطبيق شرع الله عليه، أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فالكفر ملة واحدة. فعلى قادة الأمة الإسلامية تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها إذا حصلت، وأن تفكر بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة, كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار( ).
* * *