الطريق الى الجنة
اخي الحبيب تقرب الى الله ليتقرب الله اليك
ادعوك للتسجيل في المنتدى وابني مستقبلك

الادارة
الطريق الى الجنة
اخي الحبيب تقرب الى الله ليتقرب الله اليك
ادعوك للتسجيل في المنتدى وابني مستقبلك

الادارة
الطريق الى الجنة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الطريق الى الجنة

منتدى اسلامي ثقافي اجتماعي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 السيرة النبوية الجزء الثاني -33

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 99
تاريخ التسجيل : 31/10/2012
العمر : 63

السيرة النبوية الجزء الثاني -33 Empty
مُساهمةموضوع: السيرة النبوية الجزء الثاني -33   السيرة النبوية الجزء الثاني -33 I_icon_minitimeالخميس نوفمبر 01, 2012 2:35 pm

المبحث الرابع
أهم الأحداث ما بين حنين وتبوك
أولاً: ترتيب استيفاء الصدقات:
شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته إلى المدينة -في أواخر ذي القعدة- في تنظيم الإدارة والجباية، وكان صلى الله عليه وسلم قد استخلف عتاب بن أسيد على مكة حين انتهى من أداء العمرة, وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس ويعلمهم القرآن، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم عندما تدخل القبائل في الإسلام أن يحرص على تعليمها وتربيتها ويعين من يشرف على ذلك؛ لأن النفوس تحتاج إلى العناية والاهتمام وغرس العقائد الصحيحة والتصورات السليمة فيها، وفي مطلع المحرم من العام التاسع وجه الرسول صلى الله عليه وسلم عماله إلى المناطق المختلفة، فبعث بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار, وعباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة، ورافع بن مكيث إلى جهينة، وعمرو بن العاص إلى فزارة، والضحاك بن شعبان الكلابي إلى بني كلاب، وبسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب، وابن اللُّتْبيَّة الأزدي إلى بني ذبيان, ورجلا من بني سعد بن هذيم إلى بني هذيم( ), والمهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء، وزياد بن لبيد إلى حضرموت، والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم إلى بني سعد( ), والعلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وعلي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم( ).
وكان صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال، يحاسبهم على المستخرج والمصروف, كما فعل مع عامله ابن اللُّتبيَّة بن الأزد حيث حاسبه عندما قال الرجل( ): هذا لكم، وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه, إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال: «اللهم هل بلغت» مرتين( ) وكان يقول أيضا: «أيما عامل استعملناه وفرضنا له رزقًا فما أصاب بعد رزقه فهو غلول»( ).
ثانيًا: أهم السرايا في هذه المرحلة:
أ- سرية الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين:
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث الطفيل بن عمرو من مقره في حنين وقبل أن يسير إلى الطائف، أمره بأن يهدم (ذي الكفين) صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسي، ثم يستمد قومه ويوافيه مع المدد إلى الطائف، وقد نفذ الطفيل بن عمرو أوامر النبي صلى الله عليه وسلم, فهدم ذي الكفين وحرقه, وقاد أربعمائة من قومه ومعهم دبابة ومنجنيق مددًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فوصلوا إليه بعد مقدمه الطائف بأربعة أيام( ).
ب- سرية عبد الله بن حذافة السهمي, ويقال إنها سرية الأنصار:
قال علي بن أبي طالب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل عليها رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب, فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبًا, فجمعوا فقال: أوقدوا نارًا, فأوقدوها فقال: ادخلوها, فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضًا ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار, فما زالوا حتى خمدت النار فسكن غضبه, فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة, الطاعة في المعروف»( ).
ج- سرية علي بن أبي طالب لهدم صنم الفُلس في بلاد طيئ:
وفي ربيع الآخر خرجت سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس، صنم لطيئ ليهدمه, وكان تعدادها خمسين ومائة رجل من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض, فشنوا الغارة على محلة آل حاتم -حاتم الطائي الذي ضرب المثل بجوده- مع الفجر فهدموا الفلس وخربوه، وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء, وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام( ).
د- سرية جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الخلصة:
قال جرير بن عبد الله: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» فقلت: بلى, فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس, وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري فقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» قال: فما وقعت عن فرسي بعد، قال: وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخشعم وبجيلة، فيه نصب يقال له: الكعبة، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها، قال: ولما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام, فقيل له إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا, فإن قدر عليك ضرب عنقك، قال: فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها ولتشهدوا أن لا إله إلا الله أو لأضربن عنقك. قال: فكسرها وشهد, ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أبا أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك, فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله, والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب, قال: فبرَّك النبي صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات( ).
ثالثًا: إسلام عدي بن حاتم:
عندما وقعت أخت عدي بن حاتم في أسر المسلمين عاملها رسول الله معاملة كريمة, وبقيت معززة مكرمة، ثم كساها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها ما تتبلغ به في سفرها, وعندما وصلت إلى أخيها في الشام شجعته على الذهاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأثر بنصيحتها وقدم على المدينة( ), ونترك أبا عبيدة بن حذيفة يحدثنا عن قصة إسلام عدي:
قال أبو عبيدة بن حذيفة: كنت أحدث عن عدي بن حاتم فقلت: هذا عدي في ناحية الكوفة، فلو أتيته فكنت أنا الذي أسمع منه، فأتيته فقلت: إني كنت أحدث عنك حديثا، فأردت أن أكون أنا الذي أسمعه منك، قال: لما بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم فررت منه حتى كنت في أقصى أرض المسلمين مما يلي الروم. قال: فكرهت مكاني الذي أنا فيه حتى كنت أشد كراهية له مني من حيث جئت، قال: قلت: لآتين هذا الرجل, فوالله إن كان صادقًا فلأسمعن منه، وإن كان كاذبا ما هو بضائري. قال: فأتيته واستشرفني الناس وقالوا: عدي ابن حاتم، عدي بن حاتم، قال: أظنه قال ثلاث مرار، قال: فقال لي: يا عدي بن حاتم, أسلم تسلم، قال: قلت: إني من أهل دين، قال: يا عدي بن حاتم, أسلم تسلم، قال: قلت: إني من أهل دين، قالها ثلاثا, قال: «أنا أعلم بدينك منك»، قال: قلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: «نعم» قال: «أليس ترأس قومك؟» قال: قلت: بلى، قال: فذكر محمد الركوسية( ) قال كلمة التمسها يقيمها فتركها قال: فإنه لا يحل في دينك المرباع( ).
قال: فلما قالها، تواضعت لها. قال: «وإني قد أرى أن مما يمنعك خصاصة تراها ممن حولي، وأن الناس علينا إلبًا واحدًا, هل تعرف مكان الحيرة؟» قال: قلت: قد سمعت بها ولم آتها، قال: «لتوشكن الظعينة أن تخرج منها بغير جوار حتى تطوف بالكعبة، ولتوشكن كنوز كسرى بن هرمز تفتح» قال: قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «كسرى بن هرمز -ثلاث مرات- وليوشكن أن يبتغي من يقبل ماله منه صدقة فلا يجد», قال: فلقد رأيت اثنتين، قد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالكعبة, وكنت في الخيل التي أغارت على المدائن، وايم الله لتكونن الثالثة؛ إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيه( ), وفي رواية جاء فيه.. فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟» فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك, قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم( ) محشوة ليفًا فقذفها إليَّ، فقال: «اجلس على هذه», قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: «بل أنت» فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك( ).
وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها:
1- كان عدي وهو مقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل في تصوره أنه أحد رجلين: إما نبي، وإما ملك، فلما رأى وقوف رسول الله مع المرأة الضعيفة الكبيرة مدة طويلة شعر بخلق التواضع وانسلخ من ذهنه عامل الملك، واستقر في تصوره عامل النبوة.
2- كان النبي صلى الله عليه وسلم موفقا حينما انتقد عديا في مخالفته للدين الذي يعتنقه، حيث حصل لعدي اليقين بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعلم من دينه ما لا يعلمه الناس من حوله.
3- لما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم أن عديا قد أيقن بنبوته تحدث عن العوائق التي تحول بين بعض الناس واتباع الحق, حتى مع معرفتهم بأنه حق، ومنها ضعف المسلمين وعدم اتساع دولتهم، وما هم فيه من الفقر, فأبان له النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأمن سيشمل البلاد حتى تخرج المرأة من العراق إلى مكة من غير أن تحتاج إلى حماية أحد، وأن دولة الفرس ستقع تحت سلطان المسلمين، وأن المال سيفيض حتى لا يقبله أحد، فلما زالت عن عدي هذه المعوقات أسلم.
4- كان النبي صلى الله عليه وسلم موفقا في دعوته حيث كان خبيرا بأدواء النفوس ودوائها، ومواطن الضعف فيها, وأزمة قيادها، فكان يلائم كل إنسان بما يلائم علمه وفكره وما ينسجم مع مشاعره وأحاسيسه؛ ولذلك أثر في زعماء القبائل ودخل الناس في دين الله أفواجا( ).
5- وجد عدي سمات النبوة الصادقة في مظهر معيشته صلى الله عليه وسلم وحياته، ووجد هذه السمات أيضا في لون حديثه وكلامه, ووجد مصداق ذلك فيما بعد، في وقائع الزمن والتاريخ، فكان ذلك سببًا في إسلامه، وزيادة يقينه وانخلاعه عن زخارف الحياة الدنيا ومظاهر الأبهة والترف التي كان قد أسبغها عليه قومه( ).
رابعًا: أحداث متفرقة في سنة ثمان:
قال ابن كثير نقلا عن الواقدي:... وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو ابني الجلندي من الأزد، وأخذت الجزية من مجوس بلدها ومن حولها من الأعراب، وفيها تزوج رسول الله فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في ذي القعدة, فاستعاذت منه عليه السلام ففارقها، وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم بن رسول الله من مارية القبطية فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولدا ذكرا( ).
وفي عام 8هـ توفيت السيدة زينب بنت رسول الله وزوج أبي العاص بن الربيع، ولدت قبل المبعث بعشر سنين، وكانت أكبر بناته صلى الله عليه وسلم تليها رقية, ثم أم كلثوم، ثم فاطمة رضي الله عنهن، كان رسول الله محبا لها، أسلمت قديما ثم هاجرت قبل إسلام زوجها بست سنين، وكانت قد أجهضت في هجرتها ثم نزفت وصار المرض يعاودها حتى توفيت, ولما ماتت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغسلنها وترًا: ثلاثـًا، أو خمسًا، واجعلن في الآخر كافورًا»( ).
* * *


الفصل السابع عشر
غزوة تبوك (9هـ), وهي غزوة العسرة

المبحث الأول
تاريخ الغزوة، وأسماؤها وأسبابها
أولاً: تاريخها وأسماؤها:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الغزوة في رجب من العام التاسع الهجري( ) بعد العودة من حصار الطائف بنحو ستة أشهر( ).
واشتهرت هذه الغزوة باسم غزوة تبوك، نسبة إلى مكان هو عين تبوك، التي انتهى إليها الجيش الإسلامي، وأصل هذه التسمية جاء في صحيح مسلم, فقد روي بسنده إلى معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي»( ).
وللغزوة اسم آخر, وهو: غزوة العسرة، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم حينما تحدث عن هذه الغزوة في سورة التوبة، قال تعالى: ( لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: 117]. وقد روى البخاري بسنده إلى أبي موسى الأشعري، قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك..., وعنون البخاري لهذه الغزوة بقوله: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة)( ).
لقد سميت بهذا الاسم لشدة ما لاقى المسلمون فيها من الضنك، فقد كان الجو شديد الحرارة، والمسافة بعيدة، والسفر شاقًّا لقلة المؤونة وقلة الدواب التي تحمل المجاهدين إلى أرض المعركة، وقلة الماء في هذا السفر الطويل والحر الشديد، وكذلك قلة المال الذي يجهز به الجيش وينفق عليه( ), ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر بن عقيل قال: خرجوا في قلة من الظهر, وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة من الماء( ), وهذا الفاروق عمر بن الخطاب يحدثنا عن مدى ما بلغ العطش من المسلمين فيقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع, حتى إن كان أحدنا يذهب يلتمس الخلاء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته تنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرشه فيشربه وبضعه على بطنه( ).
وللغزوة اسم ثالث هو: الفاضحة, ذكره الزرقاني –رحمه الله– في كتابه «شرح المواهب اللدنية»( ) وسميت بهذا الاسم لأن هذه الغزوة كشفت عن حقيقة المنافقين, وهتكت أستارهم، وفضحت أساليبهم العدائية الماكرة، وأحقادهم الدفينة، ونفوسهم الخبيثة, وجرائمهم البشعة بحق رسول الله والمسلمين( ).
وأما موقع تبوك فيقع شمال الحجاز, يبعد عن المدينة 778 ميلاً حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك( ).
ثانيًا: أسبابها:
ذكر المؤرخون أسباب هذه الغزوة فقالوا: وصلت الأنباء للنبي صلى الله عليه وسلم من الأنباط الذين يأتون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من مستنصرة العرب, وجاءت في مقدمتهم إلى البلقاء( ) فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم قبل أن يغزوه( ).
ويرى ابن كثير أن سبب الغزوة هو استجابة طبيعية لفريضة الجهاد؛ ولذلك عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله, قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) [التوبة: 123].
والذي قاله ابن كثير هو الأقرب للصواب، إضافة إلى أن الأمر الذي استقر عليه حكم الجهاد هو قتال المشركين كافة بمن فيهم أهل الكتاب, الذين وقفوا في طريق الدعوة وظهر تحرشهم بالمسلمين كما روى أهل السير( ).
ولا يمنع ما ذكره المؤرخون بأن سبب الخروج هو عزم الروم على غزو المسلمين في عقر دارهم أن يكون هذا حافزًا للخروج إليهم، لأن أصل الخروج كان واردًا.
لقد كان المسلمون على حذر من مجيء غسان إليهم من الشام, ويظهر ذلك جليا مما وقع لعمر بن الخطاب, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا فهجرهن، ففي صحيح البخاري: وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء فضرب بابي ضربًا شديدًا، وقال: أثمَّ هو؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال: حدث عظيم، فقلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول, طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه...( ).
ثالثًا: الإنفاق في هذه الغزوة وحرص المؤمنين على الجهاد:
حث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة على الإنفاق في هذه الغزوة لبعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته, وكان عثمان t صاحب القِدْح المُعَلَّى في الإنفاق في هذه الغزوة( ), فهذا عبد الرحمن بن حباب يحدثنا عن نفقة عثمان حيث قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله, عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان، فقال: يا رسول الله, عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله, عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه ( ) وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم -يرددها مرارًا-»( ).
وأما عمر فقد تصدق بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبا بكر بذلك, وهذا الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي, فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر t بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا( ).
وروى أن عبد الرحمن بن عوف أنفق ألفي درهم وهي نصف أمواله لتجهيز
جيش العسرة( ).
وكانت لبعض الصحابة نفقات عظيمة، كالعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن عبيد الله، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن عدي رضي الله عنهم( ).
وهكذا يفهم المسلمون أن المال وسيلة, واستطاع أغنياء الصحابة أن يبرهنوا أن مالهم في خدمة هذا الدين، يدفعونه عن طواعية ورغبة، وإن تاريخ الأغنياء المسلمين تاريخ مشرف؛ لأن تاريخ المال في يد الرجال لا تاريخ الرجال تحت سيطرة المال, وكما كان الجهاد بالنفس، فكذلك هو بالمال، وإن الذين ربوا على أن يقدموا أنفسهم، تهون عليهم أموالهم في سبيل الله تعالى( ).
إن في مسارعة الموسرين من الصحابة إلى البذل والإنفاق دليلا على ما يفعله الإيمان في نفوس المؤمنين من مسارعة إلى فعل الخير, ومقاومة لأهواء النفس وغرائزها, مما تحتاج إليه كل أمة لضمان النصر على أعدائها، وخير ما يفعله المصلحون وزعماء النهضات هو غرس الدين في نفوس الناس غرسًا كريمًا( ).
وقدم فقراء المسلمين جهدهم من النفقة على استحياء؛ ولذلك تعرضوا لسخرية وغمز ولمز المنافقين، فقد جاء أبو عقيل بنصف صاع تمر, وجاء آخر بأكثر منه، فلمزوها قائلين: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت الآية: ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ )( ) [التوبة: 79].
وقالوا: ما أعطي ابن عوف هذا إلا رياء، فكانوا يتهمون الأغنياء بالرياء ويسخرون من صدقة الفقراء( ).
لقد حزن الفقراء من المؤمنين؛ لأنهم لا يملكون نفقة الخروج إلى الجهاد, فهذا عُلَبة بن زيد أحد البكائين صلى من الليل وبكى، وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض, فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد غفر له( ).
وفي هذه القصة وما جرى فيها آيات من الإخلاص وحب الجهاد لنصرة دين الله
وبث دعوته في الآفاق, وفيها من لطف الله بضعفاء المؤمنين الذين يعيشون في حياتهم
عيشة عملية( ).
وهذا واثلة بن الأسقع نتركه يحدثنا عن قصته:... عندما نادى رسول الله في غزوة تبوك، خرجت إلى أهلي فأقبلت وقد خرج أول صحابة رسول الله فطفقت في المدينة أنادي: ألا من يحمل رجلاً له سهمه؟ فإذا شيخ من الأنصار، فقال: لنا سهمه على أن نحمله( ) عقبة، وطعامه معنا؟ فقلت: نعم، قال فسر على بركة الله، فخرجت مع خير صاحب حتى أفاء الله علينا( )، فأصابني قلائص( )، فسقتهن حتى أتيته فخرج، فقعد على حقيبة من حقائب إبله، ثم قال: سقهن مدبرات, ثم قال: سقهن مقبلات، فقال: ما أرى قلائصك إلا كرامًا, إنما هي غنيمتك التي شرطت لك، قال: خذ قلائصك يا ابن أخي فغير سهمك أردنا ( ).
وهكذا تنازل واثلة في بداية الأمر عن غنيمته ليكسب الغنيمة الأخروية، أجرًا وثوابًا يجده عند الله يوم لقائه، وتنازل الأنصاري عن قسم كبير من راحته ليتعاقب وواثلة على راحلته ويقدم له الطعام مقابل سهم آخر هو الأجر والثواب.
إنها مفاهيم تنبع من المجتمع الذي تربى على كتاب الله وسنة رسوله، لها نفس الخاصية في الإضاءة وتحمل نفس البريق، متمم بعضها لبعضها الآخر( ).
وجاء الأشعريون يتقدمهم أبو موسى الأشعري يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على إبل ليتمكنوا من الخروج للجهاد, فلم يجد ما يحملهم عليه حتى مضى بعض الوقت فحصل لهم على ثلاثة من الإبل( ).
وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى حد البكاء شوقًا للجهاد وتحرجًا من القعود حتى نزل فيهم قرآن: ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ) [التوبة: 91-92].
إنها صورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد على عهد رسول الله، وما كان يحسه صادقو الإيمان من ألم إذا ما حالت ظروفهم المادية بينهم وبين القيام بواجباتهم، وكان هؤلاء المعوزون وغيرهم ممن عذر الله لمرض أو كبر سن أو غيرهما يسيرون بقلوبهم مع المجاهدين( ) وهم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم» قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر»( ).
رابعًا: موقف المنافقين من غزوة تبوك:
عندما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم النفير ودعا إلى الإنفاق في تجهيز هذه الغزوة، أخذ المنافقون في تثبيط همم الناس قائلين لهم: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله تعالى فيهم: ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ  فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [التوبة: 81-82].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في جهازه لتبوك، للجد بن قيس: «يا جد, هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبًا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك» ففيه نزلت الآية: ( وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) [التوبة: 49]. وذهب بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبدين أعذارًا كاذبة ليأذن لهم بالتخلف، فأذن لهم, فعاتبه الله بقوله: ( عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) [التوبة: 43].
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسًا منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم من أحرق عليهم بيت سويلم( ).
وهذا يدل على مراقبة المسلمين الدقيقة ومعرفتهم بأحوال المنافقين واليهود، فقد كانت عيون المسلمين يقظة تراقب تحركات اليهود والمنافقين، واجتماعاتهم وأوكارهم، بل كانوا يطلعون فيها على أدقِّ أسرارهم واجتماعاتهم وما يدور فيها من حبك المؤامرات, وابتكار أساليب التثبيط, واختلاق الأسباب الكاذبة لإقناع الناس بعدم الخروج للقتال، وقد كان علاج رسول الله لدعاة الفتنة وأوكارها حازما حاسما، إذ أمر بحرق البيت على من فيه من المنافقين، وأرسل من أصحابه من ينفذه, ونفذ بحزم, وهذا منهج نبوي كريم يتعلم منه كل مسئول في كل زمان ومكان كيف يقف من دعاة الفتنة ومراكز الشائعات المضللة التي تلحق الضرر بالأفراد والمجتمعات والدول؛ لأن التردد في مثل هذه الأمور يعرض الأمن والأمان إلى الخطر وينذر بزوالها( ).
لقد تحدث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل الغزوة وأثناءها وبعدها, ومما جاء من حديث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل غزوة تبوك ما يتضمن استئذانهم، وتخلفهم عن الخروج، وكان ممن تخلف عبد الله بن أبيّ ابن سلول, وقد تحدث القرآن عنهم فقال تعالى: ( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) [التوبة: 42]. فقد بين -سبحانه وتعالى- موقف المنافقين وأنهم تخلفوا بسبب بعد المسافة وشدتها، وأنه لو كان الذي دعوتهم إليه يا محمد عرضًا من أعراض الدنيا ونعيمها وكان السفر سهلا لاتبعوك في الخروج، ولكنهم تخلفوا ولم يخرجوا, فالآية تشرح وتوضح ملابسات موقفهم قبل الخروج إلى الغزوة، وأسباب هذا الموقف, ثم حكى –سبحانه- ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد عودة المؤمنين من هذه الغزوة: ( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ). كان نزول هذه الآية قبل رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك. والمعنى: وسيحلف هؤلاء المنافقون بالله -كذبًا وزورًا- قائلين: لو استطعنا -أيها المؤمنون- أن نخرج معكم للجهاد في تبوك لخرجنا، فإننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين فقد كانت لنا أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف( ).
وقوله -سبحانه-: ( يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ). قال ابن عاشور: أي يحلفون مهلكين أنفسهم -أي موقعينها في الهلك, والهلك: الفناء والموت- ويطلق على الأضرار الجسمية وهو المناسب هنا أي يتسببون في ضر أنفسهم بالأيمان الكاذبة وهو ضر الدنيا وعذاب الآخرة, وفي هذه الآية دلالة على أن تعمد اليمين الفاجرة يفضي
إلى الهلاك( ).
ثم عاتب الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: ( عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ).
قال مجاهد( ): نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا, وهؤلاء هم فريق من المنافقين، منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، وكانوا تسعا وثلاثين واعتذروا بأعذار كاذبة( ).
والآية الكريمة عتاب لطيف من اللطيف الخبير -سبحانه- لحبيبه صلى الله عليه وسلم على ترك الأولى, وهو التوقف عن الإذن إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال( ) ثم قال تعالى: ( لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ  إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) [التوبة: 44-45].
هذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال( )، فبين –سبحانه- أنه ليس من شأن المؤمنين بالله واليوم الآخر الاستئذان وترك الجهاد في سبيل الله، وإنما هذا من صفات المنافقين الذين يستأذنون من غير عذر, وصفهم –سبحانه- بقوله: ( وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي: شكت في صحة ما جئتهم به، وقوله ( فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) أي: يتحيرون يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء( ).
لقد كانت غزوة تبوك منذ بداية الإعداد لها مناسبة للتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وضحت فيها الحواجز بين الطرفين، ولم يعد هناك أي مجال للتستر على المنافقين أو مجاملتهم, بل أصبحت مجابهتهم أمرًا ملحًّا بعد أن عملوا كل ما في وسعهم لمجابهة الرسول والدعوة، وتثبيط المسلمين عن الاستجابة للنفير الذي أعلنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والذي نزل به القرآن الكريم، بل وأصبح الكشف عن نفاق المنافقين، وإيقافهم عند حدهم واجبًا شرعيًّا( ).
خامسًا: إعلان النفير وتعبئة الجيش:
أعلن النفير العام للخروج لغزوة تبوك, حتى بلغ عدد من خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ثلاثين ألفا، وقد عاتب القرآن الكريم الذين تباطأوا بقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ) [التوبة: 38].
وقد طالبهم القرآن الكريم بأن ينفروا شبابًا وشيوخًا وأغنياء وفقراء بقوله تعالى: ( انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
[التوبة: 41].
لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحشد ثلاثين ألف مقاتل( ) من المهاجرين والأنصار وأهل مكة والقبائل العربية الأخرى، ولقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم -على غير عادته في غزواته- هدفه ووجهته في القتال، إذ أعلن صراحة أنه يريد قتال بني الأصفر (الروم), علما بأن هديه في معظم غزواته أن يوري فيها( ), ولا يصرح بهدفه ووجهته وقصده, حفاظًا على سرية الحركة ومباغتة العدو( ).
وقد استدل بعض العلماء بهذا الفعل على جواز التصريح لجهة الغزو إذا لم تقتضِ المصلحة ستره، وقد صرح صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة -على غير العادة- بالجهة التي يريد غزوها وجلى هذا الأمر للمسلمين لأسباب, منها:
1- بعد المسافة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أن السير إلى بلاد الروم يعد أمرًا صعبًا؛ لأن التحرك سيتم في منطقة صحراوية ممتدة قليلة الماء والنبات، ولا بد - حينئذ- من إكمال المؤنة ووسائل النقل للمجاهدين قبل بدء الحركة؛ حتى لا يؤدي نقص هذه الأمور إلى الإخفاق في تحقيق الهدف المنشود.
2- كثرة عدد الروم, بالإضافة إلى أن مواجهتهم تتطلب إعدادًا خاصًّا، فهم عدو يختلف في طبيعته عن الأعداء الذين واجههم النبي صلى الله عليه وسلم من قبل، فأسلحتهم كثيرة، ودرايتهم بالحرب كبيرة, وقدرتهم القتالية فائقة( ).
3- شدة الزمان، وذلك لكي يقف كل امرئ على ظروفه, ويعد النفقة اللازمة له في هذا السفر الطويل لمن يعول وراءه( ).
4- أنه لم يعد مجال للكتمان في هذا الوقت، حيث لم يبق في جزيرة العرب قوة معادية لها خطرها تستدعي هذا الحشد الضخم سوى الرومان ونصارى العرب الموالين لهم في منطقة تبوك ودومة الجندل والعقبة( ).
لقد شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا الأخذ بمبدأ المرونة عند رسم الخطط الحربية، ومراعاة المصلحة العامة في حالتي الكتمان والتصريح, ويعرف ذلك من مقتضيات الأحوال( ).
ولما علم المسلمون بجهة الغزوة سارعوا إلى الخروج إليها, وحث الرسول صلى الله عليه وسلم على النفقة قائلا: «من جهز جيش العسرة فله الجنة»( ).
واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وخلَّف علي بن أبي طالب على أهله، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا وتخففا منه، فأخذ علي t سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف( ) فقال: يا نبي الله, زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني، فقال: «كذبوا, ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك, أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي»( ) فرجع عليُّ إلى المدينة( ).
وكان استخلاف علي t في أهله باعتبار قرابته ومصاهرته, فكان استخلافه في أمر خاص، وهو القيام بشأن أهله، وكان استخلاف محمد بن مسلمة الأنصاري في الغزوة نفسها استخلافًا عامًّا، فتعلق بعض الناس بأن استخلاف علي يشير إلى خلافته من بعده، ولا صحة لهذا القول؛ لأن خلافته كانت في أهله خاصة( ).
وعندما تجمع المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله، اختار الأمراءَ والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، فأعطى اللواء الأعظم إلى أبي بكر الصديق, ورايته العظمى إلى الزبير بن العوام t ودفع راية الأوس إلى أسيد بن حضير، وراية الخزرج إلى أبي دجانة، وأمر كل بطن من الأنصار أن يتخذ لواء( )، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراسة تبوك من يوم قدم إلى أن رحل منها عباد بن بشر، فكان t يطوف في أصحابه على العسكر( ), وكان دليل رسول الله في هذه الغزوة علقمة بن الفغواء الخزاعي، فقد كان من أصحاب الخبرة والكفاءة في معرفة طريق تبوك( ).
وقد انفرد الواقدي بالمعلومات عن طريق الجيش وتوزيع الرايات، وهو متروك, ولكنه غزير المعلومات في السيرة، وأخذ مثل هذه المعلومات منه لا يضر( ).
ويلاحظ الباحث التطور السريع لعدد المقاتلين بشكل عام, ولسلاح الفرسان بشكل خاص. إن الذي يدرس تاريخ الدعوة الإسلامية، ونشوء الدولة الإسلامية ومؤسساتها العامة -وفي مقدمة هذه المؤسسات الجيش الإسلامي القوة الضاربة للدولة- يلاحظ أن هناك تطورًا سريعًا جدًّا في مجال القوة العسكرية، إذ بلغ عدد المقاتلين في غزوة بدر الكبرى ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلا، وفي غزوة أحد بلغ سبعمائة مقاتل تقريبا، وفي غزوة الأحزاب ثلاثة آلاف مقاتل، وفي غزوة فتح مكة عشرة آلاف مقاتل، وفي غزوة حنين بلغ العدد اثني عشر ألف مقاتل، وأخيرًا بلغ عدد المقاتلين في تبوك ثلاثين ألف مقاتل أو يزيد.
وإن الدارس يلاحظ هذا التطور السريع اللافت للنظر في مجال سلاح الفرسان, ففي غزوة بدر كان عدد الفرسان فارسين في بعض الروايات، وفي غزوة أحد لم يتجاوز عدد الفرسان ما كان في بدر, ويقفز العدد بعد ست سنوات فقط إلى عشرة آلاف فارس، وهذا يعود إلى انتشار الإسلام في الجزيرة العربية, وبخاصة في البادية، ذلك لأن أهلها يهتمون باقتناء الخيول وتربيتها أكثر من أبناء المدن( ).
* * *
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://theroadtoparadise.alafdal.net
 
السيرة النبوية الجزء الثاني -33
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» السيرة النبوية الجزء الثاني -10
» السيرة النبوية الجزء الثاني -26
» السيرة النبوية الجزء الثاني-41
» السيرة النبوية الجزء الثاني -11
» السيرة النبوية الجزء الثاني -27

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الطريق الى الجنة :: السيرة المطهرة-
انتقل الى: